د.محمد فتحي عبد العال يكتب : حكايات الأمثال

د.محمد فتحي عبد العال يكتب : حكايات الأمثال
د.محمد فتحي عبد العال يكتب : حكايات الأمثال
 
 
1-"أبصر من زرقاء اليمامة"
فتاة نجدية من جديس تناقل العرب قدرتها على رؤية الشخص على مسيرة ثلاثة أيام بلياليها حتى صارت مضربا للامثال ونظرا لحدة بصرها أوكل لها قومها مهمة العسس والتحذير من أي هجوم مباغت من القبائل المتربصة بهم ليكونوا على استعداد دائم فاحتال الأعداء على هذا الأمر فقطعوا الأشجار وامسكوها أمامهم فلما رأتهم زرقاء اليمامة حذرت قومها قائلة : "إني أرى الشجر قد أقبل إليكم" فاتهمها قومها بالجنون وانصرفوا عنها ولم يأخذوا تحذيرها مأخذ الجد حتى وقعت الواقعة وظفر بهم أعداؤهم وكان مصير زرقاء اليمامة هو اقتلاع عينيها وصلبها.
 وقد قيل في أحد الروايات، أنهم اقتلعوا عينيها فسالت من عروقها مادة سوداء نظرا لاكتحالها بحجر الإثمد، وأنه ربما كانت هي أوائل نساء العرب التي اكتحلت به والذي شاع بعدها أنه يزيد من حدة وقوة البصر كزرقاء اليمامة.. 
 هل يمكن لإنسان أن يرى على مسافة ثلاثة أيام أي في حدود تتعدى المائتي كيلو متر بتقدير اليوم؟ 
  هو أمر مستحيل من الناحية العلمية فطبيعة الأرض في نجد حيث عاشت زرقاء اليمامة تزخر بالوديان والهضاب مما يجعل مدى الرؤية محدود حتى ولو فرضا أنها كانت تنظر من فوق ربوة مرتفعة. إضافة إلى أن الأرض كروية وليست مسطحة وبالتالي فالأفق لا يكون مرئيا بعد مسافة تقارب خمسة كيلومترات.
  فما الطريق إذن لتقبل هذه القصة في ضوء الحقائق العلمية؟
  إن ما امتلكته زرقاء اليمامة هو بمثابة منحة إلهية تسمى "الحاسة السادسة" أو «الحدس» ذلك الرادار الطبيعي داخلها الذي يدق ناقوس الخطر لديها، فيمكنها من التنبؤ بعوامل الخطر باستمرار، واستشعار الأحداث قبل وقوعها  فتسارع لتحذير قبيلتها فيستعدوا للمواجهة. إذن، الحاسة السادسة هي استشعار خارج الحواس، ونجدها عند المرأة متعاظمة مقارنة بالرجل.
 
2-"جزاء سنمار"
كان (النعمان بن المنذر) ملكا مهابا على الحيرة حفظت لنا كتب التاريخ الكثير من أخباره  ويكفي أن نعلم أن العقال الذي يزين الرأس في منطقتنا العربية إلى اليوم هو إحدى مآثره  حينما وثقه ملك الفرس (كسرى) بعقال البعير لرفضه أن يزوج إحدى بناته منه.
أراد النعمان أن يبني قصرا فخما لا مثيل له ليفاخر به العرب والفرس على السواء وهو قصر (الخورنق) في الكوفة فاستدعى مهندسا روميا يسمى (سنمار) واستغرق البناء بحسب بعض الروايات عشرين عاما وبعد أن انتهى سنمار من مهمته وتأكد النعمان أن التشييد على أفضل ما يكون ألقى سنمار من أعلى القصر كي لا يشيد لأحد بناءا عظيما  كهذا وقيل لأن سنمار كان بإمكانه أن يبني القصر بطريقة مختلفة تجعله يدور مع دوران الشمس فضن بذلك ولم يفعل فانتقم منه النعمان  وقيل لعلم سنمار بمناطق ضعف البناء وتهدمه فخشي النعمان أن يفضي بهذا السر لأحد.
وأصبح هذا المثل من وقتها يطلق على كل من يقابل الإحسان بالإساءة.
 
3-"أجور من قاضي سدوم"
 لاشك أن العدل هو أهم أعمدة أي مجتمع ينشد الاستقرار والأمان وغيابه يعنى الفوضى وعدم الطمأنينة وقلب الحقائق وتشويهها هو من قبيل مناهضة العدل  وقصة المثل أنه في زمن لوط عليه السلام كان هناك قاض ظالم يدعى سدوم ، وفي إحدى  المرات احتكم إليه خصمان ، فقال أحدهما : "إن عليا لخصمي هذا ألف درهم " فقال له القاضي : "وما تطلب ؟"
فرد عليه الخصم المدعي عليه قائلًا : "إن خصمي يستحقها بعد خمسة أعوام ، فاحبسه لي ، فإني أخشى أن يغيب ، وبعد انقضاء المدة أعود إليه لرد الدين ، فلا أجده ، فيرهقني البحث عنه " فأصدر القاضي حكما غريبا وهو  القبض على المدعي صاحب الحق ، الذي قدم يد المساعدة  لخصمه ، وأقرضه المال عن طيب خاطر تاركا المدعى عليه طليقا  
وعن هذه الحادثة قال الشاعر :
"اصطبر للفلك الجاري على كل غشوم * فهو الدائر بالأمس على أل سدوم ".
من منا لم يتعرض لهذا في المراحل العمرية المختلفة ويحضرني موقفا أشبه بهذه القصة حينما كنت بالمرحلة الاعدادية وكان الكلام أثناء  شرح المدرس محرما كعادة المدارس المصرية ولسوء طالعي كان مدرس الحصة أحول وكان بجواري تلميذ لا يكف عن الثرثرة أثناء الحصة فينالني خرطوم المدرس  بدلا من زميلي الثرثار لحول المدرس ويضج الفصل بالضحك. 
ولنا في الأمثال الفلسطينية مثل مشابه "دبرها يا مستر (دل) بلكي على يدك تنحل" وهي جزء من قصيدة للشاعر الفلسطيني (نوح إبراهيم) في أعقاب الثورة الفلسطينية عام 1936 ضد هجرة اليهود إلى فلسطين وضد بيع أراضيهم والمستر (دل) هو القائد العام للجيش البريطاني آنذاك وتحرف أحيانا إلى (بيل) وكان رئيسا للجنة تقسيم فلسطين  فهو كالقاضي الجائر يحكم لمن ليس له حق.
 
4-"إن صدقناك أغضبناك "
من مآسي مجتمعاتنا شيوع النفاق بين أركانه فلا يخلو مكان صغر أم كبر من منافق متملق ومسؤول عاشق للاطراء ومجابهة المسؤول بالحقيقة وواقع الحال تعد من الآثام التي لا تغتفر وفي قصة مثلنا اليوم عبرة وعظة تقول القصة: أن  الحجاج بن يوسف الثقفي وكان واليا على العراق قد ساءه نبذ العراقيين للطاعة فشكاهم إلى شيخ صالح يدعى (جامع المحاربي)   ففاجئه الشيخ برد لم يكن في حسبانه حيث قال للحجاج : "أما إنهم لو أحبوك لأطاعوك ، على أنهم ما شنئوك لنسبك ، ولا لبلدك ، ولا لذات نفسك ، ولكنهم نقموا أفعالك ، فدع ما يبعدهم عنك إلى ما يدنيهم منك ، والتمس العافية ممن دونك تعطها ممن فوقك ، وليكن إيقاعك بعد وعيدك ، ووعيدك بعد وعدك".
فقال الحجاج وقد اغتاظ من هذه الصراحة المؤلمة وكان الحجاج معروفا بسفكه للدماء وقتله لعبد الله بن الزبير ليس ببعيد عن أذهان الناس : "والله ما أرى أن أرد بني اللكيعة إلى طاعتي إلّا بالسيف" ! .. فقال جامع : "أيها الأمير ، إن السيف إذا لاقى السيف ذهب الخيار" !.
فقال الحجاج : "الخيار يومئذ لله" ! .. فقال جامع : "أجل ، ولكن لا تدري لمن يجعله الله" ! .. فغضب الحجاج وقال : "يا هناه ، إنك من محارب" !.
فقال جامع : " وللحرب سمينا وكان محاربا .. إذا ما القنا أمسى من الطعن أحمرا ".
فقال له الحجاج : "والله لقد هممت أن أخلع لسانك ، وأضرب به وجهك" .. فقال جامع : "إن صدقناك أغضبناك ، وإن كذبنا أغضبنا الله ، وغضب الأمير أهون علينا من غضب الله".
خشى جامع أن يوقع به الحجاج فخرج خلسة من المكان مستغلا انشغال الحجاج ببعض الأمور. 
 
5-"جنت على أهلها براقش"
علاقات من طراز فريد تلك التي تربط بين البشر والحيوانات وفي مقدمتها الكلاب عبر الأزمنة المختلفة.
منازل كثيرة لا تخلو من هذه المخلوقات الوفية ألا وهي الكلاب على اختلاف الدوافع نحو اقتنائها بين الحراسة والصيد والصداقة البريئة.
ولقدا عزا العلماء مؤخرا هذا التقارب الإيجابي بين الإنسان والكلب إلى هرمون العلاقات الإجتماعي (الأوكسيتوسين).
قصة مثلنا اليوم لا تبتعد عن هذه المقدمة فبراقش التي جاء ذكرها في المثل هي كلبة مدربة على حماية قومها من الأعداء واللصوص فإذا أغار الأعداء على قومها نبحت بقوة حتى يفر القوم إلى ملاذهم الآمن وفي إحدى المرات جاء الأعداء للاغارة على قومها فنبحت فاختباء القوم ولما لم يجد الأعداء أحدا هموا بالانصراف لكن خطأ من براقش أوقع بالقوم فريسة لاعدائهم حينما نبحت والأعداء على أهبة الرحيل فانتبهوا لمكان نباحها وظفروا بها وبقومها وتنتهي الحكاية بمصير القتل الذي جمع براقش بقومها.
 
6- "ما أشبه الليلة بالبارحة"
عادة ما يوضع هذا المثل بالأدبيات في غير مدلوله الحقيقي ويعني هذا المثل تشابه بعض القوم ببعض لتساويهم فى الخديعة والشر. يعود المثل إلى الشاعر الجاهلي (طرفة بن العبد) حينما كتب حاكم الحيرة (عمرو بن هند) لعامله بالبحرين للأمر بقتله فأنشد ينعي خذلان الأصدقاء وتساويهم في الخديعة والشر قائلا :
"كل خليل كنت خاللته.. لا ترك الله له واضحة
كلهم أروغ من ثعلب.. ما أشبه الليلة بالبارحة"
 
7-"عادي أمير ولا تعادي غفير". 
وهو مثل عامي مرتبك المعنى فالأخلاق وثقافة الاختلاف ليست حكرا على منزلة أو طائفة دون أخرى فكم من فقير معدم يمتلك من الأخلاق مالا يمتلكه الوجهاء والعكس جائز. وينقصنا في مجتمعاتنا تقبل الآخر واحترام الإختلاف. 
 
8-"العاقل تعبان"
من الأمثال العامية  وغالب الظن أن اصله مستمد من مقولة لعمرو بن العاص في معرض نصحه لابنه قائلا : "استراح مَنْ لَا عَقْلَ له."
ولا يتناقض المثل مع مثل عامي دراج هو "أصحاب العقول في راحة" فالقصد فيه راحة ذوي الألباب في البعد عن الحمقى.