إدوارد فيلبس جرجس يكتب : محاكمة عزرائيل ( 1 )

إدوارد فيلبس جرجس يكتب : محاكمة عزرائيل ( 1 )
إدوارد فيلبس جرجس يكتب : محاكمة عزرائيل (  1 )
أعلن قائد الطائرة عن بدء الرحلة التي ستستغرق حوالي ست ساعات ، بين مطاري جون كينيدي بنيويورك ومطار لوس أنجلوس بكاليفورنيا . استرخت "سيلفيا "  فوق أحد مقاعد الدرجة الأولى ، تحتضن بين ذراعيها طفلها " رونالد " الذي لم يتم عامه الأول بعد. أي عين عادلة في حكمها لن ترى في سيلفيا سوى مجموعة من الروائع ، تندمج مع بعضها لتخرج في النهاية رائعة واحدة من الجمال الذي لا ينافس ، يدعمه شباب غض لم يتجاوز منتصف الحلقة الثالثة . رحلة الذهاب من لوس أنجلوس إلى نيويورك كانت إضطرارية ، مهاتفة من أبيها أقلقتها على صحة أمها ، خاصة أنها تعاني من مرض مزمن منذ فترة طويلة ، قررت السفر للاطمئنان عليها بالرغم من معارضة زوجها خوفاً على طفله الوحيد من مشاق الرحلة الطويلة ، أصرت على اصطحاب طفلها " رونالد " رافضة تركه في عناية جليسة أطفال كرغبة زوجها . شعور بالارتياح في رحلة العودة اكتنفها عندما أعلن قائد الطائرة عن الاستعداد للهبوط وأنها اتمت رحلتها بسلام واطمأنت على امها  ، من المؤكد أن زوجها " جورج تيري " ينتظر على أحر من الجمر من أجل " رونالد " . اشتاقت للعودة إلى منزلها بالرغم من أن غيابها عنه لم يطل لأكثر من يومين . بدأت مقدمة الطائرة في النظر لأسفل متخذة وضع الهبوط ، لحظات وغيرت من وضعها لتنظر لأعلى وترتفع ثانية . الظنون اتجهت إلى أن ممر الهبوط مشغول وتعليمات للقائد بالتحليق ثانية إلى أن يُفسح له الممر. لحظات وعادت مقدمة الطائرة لتنكس نظرها ثانية ، لحظات وعادت للتحليق مرتفعة . تكررت المحاولة عدة مرات مصحوبة بهمهمة الدهشة  ، تحولت همهمة الدهشة والقلق إلى خوف مؤكد عندما أعلن قائد الطائرة عن هبوط إضطراري ، سببه تمرد عجلات الطائرة للكشف عن نفسها والخروج من مكمنها ، صدرت الأوامر للقائد للهبوط في الماء . طارت زوارق الإنقاذ فوق المياه مطلقة صفارات الإنذار محذرة الزوارق التي يلهوا أًصحابها في يوم من أيام شهر يوليو الحارة ، خاصة أن هذا اليوم صادف عطلة نهاية الأسبوع . الاستعدادات تمت على وجه السرعة لمجابهة الإحتمالات لهذا الهبوط الإضطراري ،  على الأجناب بعيداً عن منطقة الوسط اصطفت زوارق الإنقاذ ، مترقبة لحظة الهبوط للإنطلاق نحو الطائرة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من ركابها ، الطائرات المروحية تحلق في الجو ، سيارات الأسعاف والشرطة تنتظر فوق اليابسة ، الجميع في حالة ترقب وتوتر .  داخل الطائرة له وصف آخر ، الوجوه اتخذت من اللون الأصفر رمزاً للخوف والفزع الذي يقفز من داخل القلوب ، الأعصاب متوترة تكاد تمزق أحزمة الأمان ، لحظات عَبرتْ فيها حبات العرق الغزيرة بالرغم من أن مبرد الهواء يعمل بكفاءة عن معارك الرعب وتوقع الشر داخل الجميع ،  تتجمع وتسيل تطارد بعضها في عجلة . رفضت سيلفيا أن تسلم الطفل لإحدى المضيفات وزادت من احكام ذراعيها حوله ، يبدو أن بعض القلق والخوف الذي يعتمل داخل نفوس الكبار تسرب إلى الطفل فانطلق في صرخات متتالية زادت من توتر امه . قائد الطائرة يطلق تنبيهاته للتأكد من أن أحزمة الأمان في وضعها المضبوط ، وأن الجميع لديهم سترات النجاة ، محاولاً أن يبث طمأنينة كاذبة في النفوس المرتعدة . نكست الطائرة رأسها منزلقة لأسفل لكن القدر لم يسمح لها بالسباحة في الماء ، انحرفت مندفعة لتنطح مقدمتها أشجار الغابة الكثيفة ، في أقل من لحظة فقد القائد السيطرة على طائرته ، استمرت في اندفاعها كالثور الهائج تنطح كل ما يقابلها من قمم الأشجار ، مع كل نطحة يتطاير أحد أجزائها مصطحباً معه لهباً حارقاً . لم تتوقف النطحات إلا بعد أن هوى ذيلها متلوياً بين الأشجار ، يشعل قممها كعود ثقاب يشعل شمعات كعكة عيد ميلاد ، لكن داخل الغابة لم تكن سوى شموع القبور ، أسرعت وحدات الإنقاذ صوب الغابة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه يحدوها أملا مشكوكا فيه ، وهي تشاهد  ألسنة اللهب المرتفعة للسماء تعلن عن حجم الكارثة                                                                           
********                                    
داخل الغابة كارثة حقيقية مكتملة الجوانب والأبعاد ، أشلاء الطائرة الممزقة مبعثرة ومختلطة بالأشلاء البشرية التي لا تزالُ تُذرف ما تبقى بها من دماء ، حجم الكارثة كبير، أعلنت شركة الطيران أن ركاب الطائرة عددهم لا يستهان به هذا عدا طاقم الطائرة . تجلت الحقيقة فور وصول فرق الإنقاذ ، شرعوا في البحث عن أحياء بالرغم من تأكدهم استحالة وجود قلب ينبض ، لكن الأمل يبقى دائماً كحافز لاختراق اليأس ، للأسف كان هناك شيئا أقوى من الأمل تمتد يده  لتطفيء سراج الحياة ، أجساد كاملة ليست بها أي تشوهات أو إصابات أو حتى مجرد كدمات لكنها فارقت الحياة . تفشت الدهشة بين رجال الانقاذ ومن يصاحبونهم من أطباء ورجال الإسعاف عندما كانوا يعثرون على أجزاء كاملة من الطائرة بمقاعدها وركابها لم تمتد إليها النيران ، الجميع يبدون كما لو كانوا نياماً أو حتى في إغماءة الصدمة ، لكن عند فحصهم يكتشفون أنهم رقدوا رقدتهم الأبدية وكأن الوفاة حدثت طبيعية وليست بسبب سقوط واحتراق الطائرة . استعدت الشمس للمغيب وابتدأت أطياف الظلام في إلقاء مقدمتها على الكون ، لملم رجال الإنقاذ خواطرهم الحزينة إستعداداً للإنصراف ، جميع من تم العثور عليهم كانوا جثثا لا تنبض بالحياة . فجأة انساب صراخ صغير وكأنه يعلن عن غضبه لتجاهل مقصود ، دارت الأعين وامتدت النظرات في كل الاتجاهات وكأنها غريق يبحث عن قشة ، تعلقت جميعها نحو نقطة واحدة ، مقعد وحيد من مقاعد الطائرة معلق فوق هامة شجرة ، فوقه تجلس سيدة إنكفأ رأسها فوق صدرها ، لكن ذراعي الأمومة التفتا بقوة واستماتة حول طفلها ، صرخات الطفل سرى مفعولها في الجميع وكأنها زفات السعادة  وصوت الحياة ، امتدت سريعاًً أكثر من سلم حول الشجرة ، الجميع يتبارون لتكون لهم سعادة اللقاء بالحياة وطرد شبح الموت الذي هيمن وخيم على المكان ، أتت أكثر من صيحة من أعلى :                                                                         _ يا آلهي الطفل وأمه لا يزالا على قيد الحياة                                      تم إنزال المقعد بعناية وحرص ، المشهد فريد من   نوعه ، الأم في غيبوبة و وتحتضن الطفل بقوة جبارة ، الطفل يضرب الهواء بذراعيه ولا أحد يعلم إن كانت ضرباته إعلاناً عن جوعه أم تعبيراً عن فرحة النجاة ، وقد تكون شهادة على أنه لم يصب حتى بمجرد خدش . تم نقلهما إلى سيارة الإسعاف لتطير إلى المستشفى بالأحياء الوحيدين  .        
 
**********
  في مكان ما ، المشهد يبدو رهيباً وغريباً ، ما يشبه قاعة داخل محكمة ، الحاضرون ليسوا ببشر ، يتسربلون بثياب بيضاء ولكل واحد منهم جناحان يرقدان خلف ذراعيه ، سيقانهم تجمع بين سيقان البشر وأرجل الطير . في الوسط يقف كائن يشبههم لكنه مكسو بثياب سوداء كثوب الحداد ، رأسه منكسة لأسفل كمتهم اعترف بجريمته ، يقف داخل قفص  الاتهام ينتظر النطق بالحكم ، فجأة  ساد سكون رهيب ونادى صوت أرعد جوانب      القاعة  .                                                                  _عزرائيل.                                                                              _ نعم سيدي .. أجاب المخلوق المكسو بالسواد بانكسار.                                _ هل تعلم جُرم ما فعلت ؟ !                                                 
_نعم سيدي ، لكنني أطمع في عفوك ومغفرتك .                                    المغفرة جُعلت لأهل الأرض فقط  عندما يخطئون ثم يردهم الصواب وليست لكم .    
_ لكنها المرة الأولى والأخيرة يا سيدي !!     
_ أيضاً عندما أخطأ آدم كانت المرة الأولى .                                           _أنا أختلف عن آدم يا سيدي فأنا سيفك المسلول .                                 
 _  ولهذا جرمك يفوق خطيئة آدم ولا يقاس بها ، ولهذا أيضاً عقابك سيفوق عقاب آدم.
ردد الحضور داخل القاعة بصوت اهتزت له الجدران :                                _مستوجب العقاب يا عزرائيل .             
سأل عزرائيل برجاء :                                                            
_هل يسمح لي سيدي بالدفاع عن نفسي ، وإيضاح موقفي ؟                            أجاب الصوت مُرعداً :                                                                
_ أنا العدل .. ومن العدل أن أستمع إليك قبل أن أنزل بك ما تستحقه من عقاب.          رفع عزرائيل وجهه وسرعان ما عاد به لأسفل وقال بصوت حزين ومنكسر :       _سيدي.. لقد أمرتني أن أُنهي حياة ركاب الطائرة جميعاً ما عدا الطفل " رونالد " لأن ساعتهم حانت ، وقمت بواجبي خير قيام . أتلفت إطارات الطائرة ، وعندما وجدت أن القائد سينجح في الهبوط إلى الماء وربما ينجو البعض ، دفعت بمقود الطائرة فخرجت عن سيطرته واندفعت نحو الغابة ، وضعت يدي أسفل مقعد الطفل رونالد وأمه وحملتهما إلى قمة أحد الأشجار حتى لا يصاب الطفل بأذى ، وعندما اصطدمت الطائرة بأشجار الغابة وتمزقت ، دُرت على كل راكبيها ، انتزعت الحياة من كل جسد لا تزال أنفاسه عالقة به . وهذه هي الجثث التي عُثر عليها وبدا أصحابها كما لو كانوا في غفوة ، بعد أن انتهيت من الجميع ، طرت لأعلى الشجرة لأُكمل عملي بانتزاع روح " سيلفيا " والدة الطفل رونالد وأُبقي علي حياته هو ، وجدت الطفل يبكي ويده تعبث بصدر امه بحثاً عن الطعام ولأول مرة أشعر أنني أحملُ بعض العاطفة ، بالرغم من تجردي التام منها ، أنت خلقتني لغاية لا تعرف العواطف أبداً ولا تستجيب لها تحت أي ظرف ، أنا الذي انتزع الأب من وسط أولاده ، وأحرم الأم من أطفالها ، وعندما تأتي ساعة أي بشر لا تستوقفني رحمة أو عاطفة عن قبض روحه ، لست أعلم يا سيدي ما الذي دهاني في هذه اللحظة ، خالفت أمرك وأشفقت على الطفل وتركت له أمه ، قُلت في نفسي أنك ملك الرحمة وبالتأكيد ستغفر لي هفوتي .                                        
أجاب الصوت مدوياً :                                                             
_ نعم أنا ملك الرحمة ، لكني أيضاً ملك الحكمة ، لي حكمة في تحديد ساعة لكل مخلوق تأتيه في الوقت المناسب .
_ ما دامت حكمة سيدي تقتضي انتزاع روح " سيلفيا " والدة الطفل ، أمهلني فرصة يا سيدي لأُصحح الخطأ الذي ارتكبته .
أجاب الصوت موبخاً :
طلبك هذا يدفعك للتردي في خطأ أكبر .. لأنك تشكك في عدالتي ، عدالة البشر تقول إذا حكم القاضي على شخص بالاعدام وفشل الجلاد في تنفيذ حكم الموت من أول مرة وطاشت ضربته ، القانون يعفي هذا الشخص من الموت ، فهل تريد لعدالتنا أن تكون أقل من عدالة البشر !! أردنا لها الموت في تلك اللحظة وتهاونت أنت في انتزاع الحياة منها ، الآن من حقها أن تعيش ، ستعيش لأجل غير مسمى ، هذا ما تقوله عدالتي.  
_ عفواً سيدي .. هل أجرؤ وأطلب قبل أن تنزل بي عقابك ، أن توضح لي حكمتكم في إنهاء حياة كل ركاب الطائرة عدا الطفل رونالد .                                    
_ حكمتي من المفروض ألا يعرفها كائناً من كان سواي ، لكن العدالة تقول أنني يجب أن أوضحها لك قبل أن أُنزل بك العقاب ، لكن ليس من حقك أن تعرف الأسباب لكل الركاب ، فأنا أتخير الوقت المناسب لكل شخص الذي تنتهي فيه حياته على الأرض ، سأكشف لك فقط عما كان سيحدث لو بقت الأم على قيد الحياة ، وماذا كان سيحدث لو ماتت الأم وبقى طفلها رونالد في حضن أبيه ، لتعلم حكمتي التي تبدو غريبة على البشر . سأكشف لك الآن كيف كانت ستسير الأمور بالنسبة للأم  سيلفيا وزوجها جورج  تيري وطفلهما رونالد لو هبطت الطائرة سالمة إلى أرض المطار ، قس على ذلك بالنسبة لباقي الركاب مع اختلاف الوضع والظروف لكل واحد منهم . 
وإلى اللقاء مع الحلقة القادمة ؛