في صباح يوم كئيب، زارنا ضيف، ثقيل علي قلبي، تودد إلي والدتي لازمها فترة طويلة من الزمن، عانت الأمرين في معيته. ننفق
من معاش ابي، نقطن شقة فخمة، مازلت في المرحلة الابتدأية.
كانت أمي ذلك الحضن الذى يحتويني، لا أدري أنها كانت بحاجة الى ذلك الاحتواء أكثر مني، هي ذلك الملاك الذى يحملني إلى آفاق من السعادة، لا يدركها غيري، لا ادرى أنها قد هبطت على الأرض بعد أن فقدت جناحيها عندما تعبت من التحليق علينا وحيدة فى سماء العطاء، وعشق الأبناء، كنت اريدها وردة عطرة زاهية دوماً؛ لكن لم ادرك أنها حتماً ستذبل من قسوة الألم! تمنيتها دوماً نادية فارهةٍ حاضرة أمامي؛ لتنفيذ أوامري
ورغباتي، دوماً كنت أحلم أن يظل هذا الجسد جميلاً متماسكاً، تساقطت أوراقها
وذبل عودها واقتلعت رياح المرض أشجارها،
وأصابها الجفاف والتشقق، اردتها هادئة ناعمة رقيقة، وماحولها صاخب خشن متدنٍ، اردتها واردتها، واردتها، ونسيت أنها بشر.
لقد غافلنا هذا الزائر، وقضى علي والدتي، فارقت الحياة استسلمت
لقدرها الصادم
الصامت مع المرض،
لاهو أفلتها ولا تركها تعيش بسلام، قضت نحيبها.
كانت دوماً تذكرني وتشدد علي مسامعي أن اجتهد؛ لكي اكون طبيبة، وتذكرني أنها وصية والدي لها.
ها هي قد رحلت وتركتني التحف عتمة الليل بمفردي، كانت سندي، ظهري الذي تعرى بفراقها، لي أخ وحيد متزوج، يسكن بعيداً، لم يكمل تعليمه، اكتفي بالدبلوم، امتهن مهنة بسيطة لا تكفي لسد حاجته، بعد وفاة امي مكث معي في شقتنا، كي يكون بجواري ويوفر إيجار شقته، كما اعتمد علي معاش والدي في أمور حياته، ساقتني زوجته أمامها وكأنني بهيمة، وسقتني كؤوساً من العذاب وألوانه، مررت نفسيتي أنا الطفلة الصغيرة، لم اهتم أن أقص علي أخي ما تفعل، بل شغلت نفسي بما هو أهم، دراستي وحلم وامنية أمي وأبي، كنت أتناول طعامي الذي يكاد لا يكفيني، لم اهتم، كنت أقوم بأعمال المنزل المختلفة ولا أبالِ، كنت اتخطي كل هذه التفاهات، نعم هي كذلك بالنسبة لي هي تفاهات؛ لأنني ارنو إلي هدف أكبر هو أن أصبح طبيبة، نعم طبيبة، تقدمت الصفوف، والمراحل، ووصلت الي الثانوية العامة، وعلي اعتابها، جاءني خنجر مسموم من زوجة اخي.
قالت له في حدة: لن تكمل تعليمها، تكتفي بالدبلوم مثلك. رفض أخي مطلبها.
لكنها هددته إما طلاقها أو الثانوية العامه، ومبررها أنهم يحتاجون ألي مصاريف كثيرة، وأولادها اهم وأولى بتلك المصروفات.
حدثها: هذه اموالها ، ونحن نصرف منها.
قالت: بل اموالنا.
مع أنها زينت يديها وأصابعها بالذهب، بعدما كانت تأتي لوالدتي شاكية ضيق ذات اليد، وكانت والدتي تكيل لها من مخزوننا، بل وتعطيها أموالا كثيرة، لأن معاش والدي كبير جدأً، يكفينا ويزيد، وكانت والدتي تدخر لي من الجهاز كل ما هو غالٍ وثمين، ووضعت لي وديعة باسمي لا تستحق الصرف الا عند بلوغي السن القانونية.
للأسف اخذت زوجة أخي كل ما ادخرته أمي لي، بعيداً عن الوديعة، لم أبالِ، والأن وضعت أخي في اختيارين، أكمل تعليمي كما ارادني ابي أو طلاقها، وهي أم لأربعة اولاد.
طأطأ اخي رأسه الي الأرض وحدثني بمفردنا:
وترك لي الأختيار، إما ان اتعلم وأحرمه من صغاره، أو أترك له صغاره واكتفي بالدبلوم.
ولكنه اقترح علي اقتراحاً آخر؛
قال لي: سأدخلك المدرسة الفنية ثم تدرسين الثانوية كما تريدين منازل دون علمها؛ فزوجتي لا تعرف القراءة.
وافقتُ علي هذا الاقتراح، كنت أنهل من العلم، كما الجوعان الذي لم يذق الطعام منذ عدة ايام، واهملت المدرسة الفنية، بل تكررت مرات رسوبي بها، هي كانت غطاء لإكمال دراستي في الثانوية، ثم الي الجامعة،
وكثيراً كانت تتساءل في تهكم : (هي المدرسة دي مش هتخلص بقى).
كنا نبرر لها كثرة خروجي بأنني من كثرة رسوبي اذهب إلي الدروس الخصوصية، وكانت تصمت لأن هذا كان خيارها.
ذات يوم أخذ أبنها حقنة بنسلين طويل المفعول، كان يعاني من حساسية ضده،
ازرق لونه بل وكاد ان يفقد حياته، كنت في خمسة طب، نظر لي أخي بعين الرجاء، والاستعطاف، كان يعلم أنني قادرة علي إنقاذه، وكانت هي تعشق هذا الأبن تحديداً وأنا أعشقة جدا ؛ لأنه ذكي جداً، لماح ، ومرح، ومتحدث لبق، ورغماً عن أخي قال في توتر وهو يحمل أبنه: أتصرفي يا دكتورة، وبدون أن اتردد لحظه احضرت حقنة مضادة لحساسية البنسلين، وانقذت بها أبن اخي.
فما كان من امه الا أنها مدت يدها وشدت قدمي رغماً عني وطبعت عليها قبلة الندم.