د. علي زين العابدين الحسيني يكتب : القراءة العوراء

د. علي زين العابدين الحسيني يكتب : القراءة العوراء
د. علي زين العابدين الحسيني يكتب : القراءة العوراء
من العوامل الفعالة لإصلاح الخلل الواقع في المجتمع نشر الثقافة، ومما يساعد على إشاعتها القراءةُ المثمرةُ، حيث تعمل على إعادة تدوين الأفكار، وإنتاج المعرفة، على أنّ التعليم الذي نتلقاه في مدارسنا ليس كما يُظن أنّه الثقافة، بل هو أساسٌ أو وسيلةٌ لها.
إنّ كثيراً ممن يتقنون القراءة والكتابة لا يستطيعون استخدامهما كوسيلة لمواصلة تحصيل الثقافة، وتلقي المعرفة، مع أنّ هدف التعليم النهائي هو محو الأمية الأبجدية، ثم الترغيب في الثقافة للقضاء على الأمية العقلية؛ لنلحق بركب الإنسانية، ونسعى للتطور.
ويلاحظ في الآونة الأخيرة كثرة الكتب المطبوعة، وهي وإن كانت في ازدياد مستمر إلا أنّ معدل القراءة منخفض بالنسبة لعدد الكتب في الماضي ومعدل القراءة، فمع تعدد نوعية المادة المقروءة عن الماضي وازديادها المتراكم يوماً بعد يوم، ما بين كتبٍ مطبوعة وإلكترونية، وبرامج ومواقع متخصصة في نشر الكتب والمواد المعرفية، ومنشورات قرائية عبر وسائل الاتصال الحديثة، وهذه الأخيرة وإن عدت قراءة إلا أنّها قراءةٌ مسليةٌ عابرةٌ يقلّ الانتفاع بها.
أجل، قد تفيد برامج الاتصال الحديثة نوعاً من الثقافة لكنّها تبقى أقلّ مجهوداً من مطالعة الكتب؛ لأن مطالعتها تتطلب مجهوداً عقلياً لا يتطلبه مثل هذه البرامج، والذي يفيد القارئ المتبصر في حياته المعرفية هي القراءة الجدية، أو قراءة التغيير، وهي مع كل أسى مفقودة أو قليلة؛ لأنّ أغلبنا يمضي أكثر يومه في التنقل بين وسائل التواصل لقراءة ما يقف عليه، ويكاد لا يفتح كتاباً إلا بعد حين.
إنّ القراءة التي يحصل القارئ منها على الثقافة لا تكون إلا وفق منهج محدد يرسمه الشخص لنفسه، أو يسير فيه من واقع تخصصه، وأما غيرها من القراءات فيمكن إطلاق مصطلح "القراءة العوراء" عليها، ولربما يستفيد منها أشخاصٌ لكن ليست استفادة كاملة، وبطبيعة الحال هي أفضل من عدمها، فوجودها أيضاً أفضل من فقدان القراءة بالكلية على قاعدة: (الأخذ بطرفٍ من الشيء أفضل من تركه بالكلية).
ولعلّ الفارق بين تحصيل الثقافة من الكتب سواء كانت مطبوعة أو إلكترونية ومن وسائل الاتصال الحديثة يكمن في كون هذه الوسائل تنشر الثقافة القطيعية، أو ما يسمى [بالطابعية]، والتي تدمغ جميع الناس بطابعٍ واحد، وأما ثقافة الكتب فهي ثقافة التخير؛ لأن القارئ يختار من الكتب ما يناسبه، وما يطلبه تخصصه.
نعم، تتميز الوسائل الحديثة بميزة ظاهرة ليست في الكتب يمكن استغلالها، وهي التشويق للثقافة، وإثارة الميل العام لدى الدارسين والعامة لمطالعة الكتب، وهذا ربما يكون مفقوداً في الكتب، وهي بهذا الاعتبار تعد مكملة للثقافة، لا أساسية في تحصيلها.
إنّ القراءة المثمرة يجب أن يتوفر فيها شيئان: التأهب الإرادي لتحصيلها، والمجهود الحقيقي المبذول في سبيلها، ومِن لازمها عدمُ الاستغناءِ عن الكتب المطبوعة؛ لأنّ الكتاب المطبوع سيظل مستودعَ الثقافةِ الجدية العميقة؛ رغم طغيان برامج وسائل الاتصال الحديثة عليه.