تظل الحضارة هي المنجز الإنساني الفريد، والتي لا يشاركها فيه غيره، فهي إنتاج لهذه الآلة الفريدة التي أودعها الله في هذا المخلوق، وهي آلة الإدراك والوعي والتعقل، فما أن تعقل الإنسان ذاته إلا وأخذ ينشد الأفضل، ويسعى للمزيد منه، طبعا في حياة أكثر أمنا من ناحية، وأزيد رقيا من ناحية أخرى، لا يلبث أن يتمرد على ما يحققه فيها، ليخطو خطوة أخرى في هذا السعي الدؤوب الدائم والمستمر نحو التقدم والتطور والارتقاء.
إن تاريخ التطور البشري والإنسانية هو تاريخ تطور العقل وما تركه من منجزات حضارية، ذلك أن الإنسان هو المخلوق الوحيد، كما قلنا آنفا، المدرك لذاته والذي يمتلك وعيا يدفعه دفعا لإثبات ذاته الفردية مرة وذاته الكلية مرة أخرى، تلك الأخيرة التي هي مبنية على الأولى ونتيجة حتمية لها.
إن الإنسان ليس بملاك وليس بحيوان ولكنه بينهما وهذه الفكرة والتي هي فكرة لاهوتية دينية التقطها الفيلسوف الفرنسي الشهير جان جاك روسو وطورها فرأى أن الإنسان هو المخلوق الوحيد القابل للكمال وذكر أنه لو تخيلنا أننا عدنا ألفين سنة للوراء ونظرنا إلى أي نوع من الحيوانات، التي تشاركنا الحياة على كوكبنا العزيز، لوجدنا حالها هو نفس الحال الذي كانت عليه، ذلك ببساطة لأن كل الحيوانات تخضع لطبيعتها البيولوجية ويسير وفق تلك الحالات البيولوجية مندفعا بغرائزه، فيعرف ماذا يأكل، وماذا لا يأكل.
أما الإنسان فلأنه يمتلك وعيا فله خصائص أخرى يأتي في مقدمتها وعلى رأسها قيمة الحرية، وهو يستخدم هذه الحرية ليصنع ويؤكد ذاته باستمرار، ومن هنا نجد الإنسان الكائن الوحيد الذي يرتقي، فهو يعلو بالتعليم والتربية، ويعلو بالحضارة، وبالمقارنة فإننا إذا التفتنا إلى تاريخنا الإنساني منذ ٢٠٠٠ سنة سنجد أن كل شيء تغير: معمارنا تغير ملبسنا تغير لغتنا تغيرت كل شيء تغير أي أن الإنسان قابل للكمال، من خلال التحول والتغير وهي الفكرة التي أخذها جان بول ساتر في فلسفته الوجودية، والتي يؤكد من خلالها أن الإنسان مخلوق حر، حتى في اللحظة التي يظن أنه غير حر فإنه في هذه الحالة قد اختار بمحض إرادته وكل حريته هذا الاختيار، فالإنسان عند سارتر في حالة اختيار مستمر، هذا الاختيار الذي يولد القلق ذلك هو القلق الوجودي، الذي يسعى من خلاله الإنسان في المطلق إلى حياة أفضل.
وتاريخ الإنسان هو تاريخ طويل من السعي نحو حياة أفضل تلك التي من أجلها ينتج الثقافات والتي إذا ما توافرت ونضجت واكتملت واعتملت عناصرها المختلفة مع بعضها البعض نتج عنها المدن التي ما تلبث أن تتحول إلى الدول التي لو قيد لها امتلاك العناصر الحضارية نتج عن ذلك بناء حضارة إنسانية جديدة.
فليست كل دولة، حتى ولو تعاملت بالمنجزات الحضارية، تمتلك حضارة خاصة بها، فإنتاج وصناعة الحضارة من التعقيد والصعوبة بمكان كبير، وكيف لا؟ إذ أن من أخص خصائص الحضارة أن تقدم منجزا حضاريا جديدا يصبح مسجّلا حصريا باسمها كمثل الذي نجده في الحضارات القديمة، فدولة من الدول أو أمة من الأمم، مهما كانت حياتها متحضرة، ولكنها لم تقدم جديدا للبشرية على مستوى الإنجازات فهي لا تمتلك حضارة خاصة بها، بل هي تعيش على منجزات لحضارة أخرى. ولكننا يمكن أن نطلق على مثل هذه الدولة أنها دولة متحضرة؛ أي تأخذ بأسباب ووسائل الحضارة التي لم تنتجها، يمكننا أن نأخذ مثالا واضحا كل الوضوح؛ فالصين دولة متحضرة وكذلك كوريا الجنوبية دولة متحضرة، واليابان كذلك، ولكن كل هذه الدول تتبع نفس أساليب ومنجزات الحضارة الغربية الحديثة تلك التي بدأت منذ ما يقترب من خمسة قرون حيث أن الحضارات، كما قلنا سابقا، تعتمل فيها العوامل المختلفة والتي هي عناصر مادية وثقافية تحكمها الأخلاق، وهذا الاعتمال يستمر عقودا وقرونا إلى أن تكتمل الحضارة، كما كان الشأن في الحضارة الإسلامية التي اكتملت في العصر العباسي الأول، هذا الذي يعني ان عناصرها أخذت في التشابك والاعتمال مدة تقترب من الثلاثة قرون.
نعود ونقول أن دولا مثل الصين أو كوريا الجنوبية أو اليابان هي دول متحضرة، وليست دولا ذات حضارات مستقلة، لأنها تحيى على منجزات الحضارة الغربية الحديثة، والتي بدأت منذ عصر النهضة، والتي كان أخص خصائصها هو التطور الفني والأدبي ثم جاءت الثورة العلمية الأولى والتي كانت ثورة في علم الفلك والفيزياء تلك التي بدأت مع نيكولاسكوبرنيكوس (باللاتينية: Nicolaus Copernicus) ولد (19 فبراير 1473 – 24 مايو 1543)، ثم الثورة العلمية الثانية في القرن السابع عشر التي كانت فيزيائية والتي كان فارسها السير إسحق نيوتن (بالإنجليزية: Isaac Newton) (25 ديسمبر 1642 - 20 مارس 1727) .
يُقسّم العلماء التاريخ إلى قسمين رئيسين:
١ - عصور ما قبل التاريخ والتي تبدا منذ العصر الحجري القديم السفلي منذ ما يقارب ٧ ملايين سنة وحتى عصر ما قبل الأسرات في مصر ما قبل التاريخ - في الفترة ما بين 5500 - 3100 سنة ق.م. حيث كان هناك إرهاصات للحضارات الأولى على ضفاف الأنهار، قبل عصر الأسرات في مصر و العراق و الهند و الصين حيث ابتكر الإنسان الأدوات لزراعة الأرض وجني المحاصيل، وقام بصناعة الفخار، وصناعة النسيج، واختراع الكتابة، وتربية المواشي والأغنام.
٢ - العصور التاريخية والتي تبدأ بعد أن اخترع السومريون الكتابة حوالي سنة ٣٥٠٠ قبل الميلاد وهي الفترة التي شهدت ميلاد أولى الحضارات الإنسانية.
ففي منطقة الهلال الخصيب والتي تطلق على حوض نهري دجلة والفرات، والجزء الساحلي من بلاد الشام، كان ظهور أول مدينة في التاريخ وهي مدينة إريدو التي كانت نواة لبناء أولى الحضارات في العالم وهي الحضارة السومرية والتي كان لها الفضل في اختراع الكتابة، كما ذكرنا آنفا، التي ما لبثت أن نقلتها منهم الحضارة المصرية القديمة التي هي الأعظم ليس في كل حضارات العالم القديم فحسب بل أرقاها وأكملها، حيث لم تخلف لنا حضارة سواها هذا الكم الهائل من الآثار التي تحكي كافة التفاصيل لهذه للحضارة، فضلا عن استمرار هذه الحضارة العظيمة لما يقارب الثلاثة آلاف عام في ظاهرة غير متكررة في كافة الحضارات: قديمها وحديثها، والتي يعدها الباحث العراقي خزعل الماجدي عشرين حضارة عبر التاريخ الإنساني كله؛ منهم ستة عشر حضارة قديمة وثلاث حضارات وسيطة هي: الحضارة المسيحية والحضارة الإسلامية والحضارة البوذية، والملاحظ أن الحضارات الوسيطة هي جميعا حضارات دينية، ثم الحضارة الغربية الحديثة وهي الحضارة العشرين والتي هي الوحيدة الموجودة الآن حيث لا يوجد حضارات أخرى غيرها.