يتطلع المصريون بشغف إلى اللحظة التي يُعلن فيها بدء الحوار الوطني الذي دعا إليه الرئيس عبد الفتاح السيسي في مناسبة «إفطار الأسرة المصرية»، قبل ثلاثة أيام من عيد الفطر المبارك، وشارك فيها عدد من رموز أحزاب سياسية غابت عن الساحة السياسية لأسباب مختلفة، ما فتح باباً عريضاً للتفاؤل. الدعوة الرئاسية حددت هدف الحوار حول أولويات العمل الوطني في المرحلة المقبلة، في ضوء التغيرات الدولية والإقليمية وما تفرزه من ضغوط اقتصادية وأمنية متعددة، على أن تقدم التوصيات والاقتراحات التي يتفق عليها المتحاورون بدون استثناء إلى الرئيس لاتخاذ ما يلزم للتطبيق.
وبالفعل ثمة نشاط حزبي غير معهود، فضلاً على تحركات مؤسسات قومية ونقابات كبرى، ومراكز أبحاث، حيث يجتهد الجميع في إعداد تصوراتهم للقضايا التي ستُطرح في الحوار الوطني حال البدء به.
وجدت الدعوة استجابة عريضة لدى شرائح وفئات وتيارات سياسية بطول البلاد وعرضها، ومنها من يعتبر نفسه مُحاصراً أو مستبعداً من العمل السياسي، لكنه وجد في الدعوة فرصة لإحياء المجال العام ومن ثم فرصة للعمل والنشاط والاحتكاك بالمواطنين وعرض رؤى مختلفة عن تلك التي التزمت بها الحكومة منذ ٢٠١٤ وإلى الآن، بيد أن بعض المعارضة ربطت قبول الدعوة من حيث المبدأ، بعدة شروط اعتبرتها لازمة لإنجاح الحوار، أبرزها المطالبة بالإفراج عن المحتجزين لأسباب تتعلق بالرأي، وهو أمر يخضع بالفعل لجهود لجنة خاصة بالعفو الرئاسي، أُعلن عنها رسمياً في «إفطار الأسرة المصرية»، ما يجعل مبدأ الشرط المسبق لإجراء الحوار الوطني تزيداً سياسياً لا أكثر ولا أقل، ولذا تم تحييده لاحقاً من قبل أصحابه.
ثمة إدراك عام بأن الدعوة للحوار الوطني بمثابة علامة فارقة بين مرحلتين في عمر الوطن. أما في التفاصيل فهناك تطلعات مختلفة جسدت بدورها مساحة تباين كبيرة حول المحاور الرئيسية للحوار، أولها تعلق بتوصيف الدعوة نفسها، ومن خلال رصد مواقف العديد من الأحزاب السياسية، نجد رؤيتين رئيسيتين؛ الأولى أن الدعوة تمهد لمرحلة جديدة من البناء الديمقراطي وتتيح فرصة كبرى لتصحيح اختلالات سياسية معروفة، وحان وقت التصدي لها بعد أن مرت البلاد بمرحلتين سابقتين، هما مواجهة الإرهاب وتدعيم البنية الأساسية بغرض جذب الاستثمار وتحسين حياة المواطنين، وأنه حان الآن الدخول في المرحلة الثالثة الخاصة بالبناء الديمقراطي وإتاحة المجال العام لكل القوى للعمل تحت مظلة الدستور والقانون.
أما الرؤية الثانية فقد بلورتها بيانات أحزاب سياسية تعتبر نفسها معارضة، بعضها في الداخل، وبعضها في الخارج، وترى الدعوة بمثابة مسعى لاحتواء أزمة متعددة الجوانب يواجهها النظام، ولا يستطيع أن يتصدى لها، وبالتالي فهو مضطر للعمل مع المعارضة، والتي تصف الأمر باعتباره حواراً سياسياً وليس حواراً وطنياً عاماً وشاملاً. وامتداداً لهذا الموقف طرحت أحزاب المعارضة ما وصفته بشروط نجاح الحوار، وأهمها أن يكون الحوار مناصفة بينها وبين السلطة، سواء في اختيار اللجنة المشرفة على الحوار، أو في طريقة التوصل إلى النتائج والتوصيات أو كيفية تطبيقها. وهي رؤية نالت غضباً من قوى متعددة، لأنها لا تستبعد كافة الأحزاب والمؤسسات والنقابات وحسب، بل لأنها تفترض أن أحزاباً ما، وهي محدودة، طرف بذاته يوازي كل أجهزة الدولة ومؤسساتها والأحزاب والمستقلين الممثلين في غرفتي البرلمان. وكأن الحوار الوطني هنا وسيلة لتقاسم السلطة بين نظام ومعارضة، وليس لبناء مرحلة جديدة في العمل السياسي العام.
ومن المحاور المهمة التي يطولها النقاش وتبرز فيها التباينات، ما يتعلق بمن ينظم الحوار الوطني، وحتى اللحظة فإن التكليف الواضح يتمثل في أن الأكاديمية الوطنية للتدريب، وهي مؤسسة تابعة لرئاسة الجمهورية، ومسؤولة عن تنظيم مؤتمرات الشباب وأنشطة تدريبية عديدة، هي المعنية بإجراء الحوار، وبالفعل قامت الأكاديمية بإرسال دعوات إلى عدد كبير من الجهات والشخصيات العامة للمشاركة في الحوار وإعداد التصورات المختلفة وإرسالها إلى الأكاديمية. وفي بيان ثانٍ أكدت الأكاديمية أنها لن تتدخل في مضمون الحوار وستركز مهمتها في تنظيم الحوار وجمع ما يتوصل إليه المتحاورون من توصيات واقتراحات إلى رئيس الجمهورية وفقاً للتكليف الصادر لها، لكن كيفية اجتماع المتحاورين وكيفية تمثيلهم والقضايا التي سيدور حولها الحوار ومكان الاجتماعات لا تبدو واضحة وفقاً لهذين البيانين. وهنا تتعدد الاجتهادات على نحو مثير.
وينال تنظيم الحوار جانباً مهماً من النقاش، وهناك مطالبة بتشكيل لجنة تشرف على الحوار، تتكون من عدد من الشخصيات المشهود لها بالكفاءة في مجالاتها، فضلاً على الرؤية السياسية الوطنية، ويمكن أن ترشح القوى السياسية أسماء هؤلاء، ويُترك للرئاسة اختيار العدد المناسب وتحديد رئيس لها، ويُعهد إليها تنظيم الحوار، والخروج بتوصيات تعبر عن توافق المتحاورين، تُقدم للرئاسة المصرية للنظر في سبل تنفيذها. على أن تقوم الأكاديمية بتوفير جميع الإمكانات اللوجيستية وحسب. ويُعد اقتراح اللجنة المشرفة وضوابط عملها وطريقة اختيارها وعددها الأمثل، من المحاور التي ما زالت بحاجة إلى حسم.
ويمتد الجدل حول الحوار الوطني إلى حزمة القضايا التي ستُطرح فيه، ومن جملة ردود الفعل، يتضح أن هناك تطلعاً واسع المدى إلى أن تناقش كل القضايا بلا استثناء، مع اختلاف في ترتيب الأولويات. وبعض الأحزاب لا سيما المعارضة وصلت إلى حد مناقشة تغييرات كبرى في الدستور وانتخابات مبكرة وتغيير قائمة طويلة من القوانين الخاصة بالانتخابات والإدارة المحلية والإعلام والسياسة الاقتصادية والمالية والأمن القومي والسياسة الخارجية ودور المرأة والحياة المدنية والمجتمع المدني والتعليم والصحة، كل ذلك في وقت واحد. وإذا تصور المرء أن حياة المصريين بكل تفاصيلها سوف تكون مثاراً لمناقشات مفتوحة حتى تصل إلى توافقات مرضية للمتحاورين ذوي الاتجاهات المتباينة جداً، فإن جوهر الحوار الوطني وتحديد الأولويات في المرحلة المقبلة المتخمة بصعوبات وتعقيدات عديدة تبدو غائبة تماماً عن أصحاب هذه الرؤى الكلية الشاملة والمفتوحة زمنياً.
ويظل التساؤل المهم: ما هي الأولويات الاقتصادية والسياسية والمجتمعية والتنموية وما يتعلق بالأمن القومي، والتي تتطلب بالفعل حواراً جاداً ورصيناً من كل الأطراف، في مدى زمني معقول لا يزيد على ثلاثة أو أربعة أشهر، وتخرج بتوصيات دقيقة قانونياً وتنفيذياً، وتتاح فرصة متابعة تطبيقها؟ على أن تتاح آليات أخرى لمتابعة القضايا التي لم تناقش في مدى زمني قريب.
وفي ظني أن إفساح المجال العام ومساحة عمل مريحة للأحزاب بين ثنايا المجتمع، والقبول بالاختلافات والنقد للسياسات الرسمية وإتاحة المعلومات بشفافية تامة، والسبيل إلى مواجهة تداعيات الأزمة الغذائية العالمية، هو الهدف الأسمى الذي يجب أن يتم التركيز عليه، لأنه هو الآلية الحقيقية للحوار الوطني المستدام .