إدوارد فيلبس جرجس يكتب: امرأة تحت سيف الأقدار (الحلقة 33 _ الأخيرة )

إدوارد فيلبس جرجس يكتب: امرأة تحت سيف الأقدار (الحلقة 33 _ الأخيرة )
إدوارد فيلبس جرجس يكتب: امرأة تحت سيف الأقدار (الحلقة 33  _ الأخيرة )
 
             بالرغم من المحاولات المستميتة التي بذلها سامي لاصطحاب أخيه عادل معه إلى منزله ، إلا أنها كلها باءت بالفشل المطلق ، اضطر سامي أن يتركه ، ليعود لمنزل أسرة زوجته بعد انتهائه من عمل التحليلات اللازمة ، على أن يذهب إليه في عطلة نهاية الأسبوع نظرا لبعد المسافة بين منزليهما ، واعدا أنه سيهاتفه يوميا للاطمئنان عليه ويخبره بنتيجة التحليلات . قبل أن يأتيه أخوه سامي كانت نفسه أقل صراعا عما هي عليه الآن ، انتهى من التفكير في كل ما يتعلق بالحياة ، محكوم عليه بالإعدام ينتظر داخل زنزانته لحظة التنفيذ ، يخاف لحظة الموت ولكنه أدرك النهاية . جاء سامي فانفتح منفذ الحياة على اتساع أبوابه وهو الذي بذل جهدا خارقا لغلقه ، رسم له صورة الحياة ثانية ووضعها على جدار أمامه ، تركه يتأملها وهو يعلم أنه يرتدي حلة المحكوم عليهم بالإعدام . من يستطيع أن يقف أمام الذهن الجامح الذي أخمده بقسوة. أتى سامي ليشعل عود ثقاب ويلقيه عليه فعاد إلى تأججه ثانية ، من يضمن أن البركان الخامد لن يثور ثانية لأقل سبب ، ثار داخله لمجرد خروجه من السجن الذي حكم على نفسه به . ذهابه لإجراء التحليلات في حد ذاته ثورة ورفض للواقع الذي أوهم نفسه بالرضاء عنه ، صورة زوجته الملهوفة عليه كما أخبره سامي تحركت بكامل عنفوانها داخل عقله ، أحدثت هزة شديدة أحس بها كما لو كانت ستقتلعه من جذوره ، أعادت له عمره الذي صاحبته فيه جنية بحور الشعر . زفراته النيرانية تكاد تثقب الحائط ، أيقظ سامي بداخله الحياة بأكملها ، ما يصعق أعصابه أنه لم يهنأ بفرحة نجاة ميرفت من مرضها ، لم يسعد بهذه اللحظات ولم يسعدها ، كان يحلم باليوم الذي تعود فيه ثانية لعشهما الذي لم يفتر أبدا . عندما عادت وجدت العش قد تراكم عليه الجليد ، تركها تتجمد بعيدا عن حضنه ، كان يحاول تجاهل نظراتها المتسائلة عن هروبه للغرفة الأخرى . أول مرة منذ زواجهما يكونان بالمنزل معا ولا يقبلها ويملي نظره من إشراقة وجهها قبل أن يغمض عينيه فتملأ حتى أحلامه . عندما علمت السبب كان أشد مرارة آلاف المرات من الهجر ، قبض بيديه على رأسه الذي يكاد يتفجر وهو يتذكر رقة وجهها التي اكتست بالحزن . آه يا حبيبتي أستمع لدقات قلبك وأنا بعيد عنك بآلاف الأميال ، أسمع صوتك يصرخ ..عد يا حبيبي وسأفتديك بنفسي ، ما جدوى الاحتفاظ بنفسي وأنت تعلم أنها ماتت بالفعل منذ تركتني . خمسة أيام لم يهاتفه سامي وهو الذي وعده بأنه سيهاتفه كل يوم ، السبب معروف ولا يحتاج لإيضاح ، تسلم سامي نتائج التحليل وخنقته الحقيقة الجافية ، النتائج تولول صائحة في وجهه .. كان لك أخ أسمه عادل ، أرح نفسك وانساه فالحياة أصبحت خلف ظهره . فيروسات المرض تخرج له لسانها الدموي ،كإرهابي يرقص مع خنجره الأحمر الملوث بالدماء . الطبيب أخبر سامي أمامه بأن النتائج ستظهر خلال ثلاثة أيام ، لماذا لم يهاتفه إن لم يكن الأسى أمسك بلسانه ، كيف يستطيع أن يقول له عد أيامك على أصابع يديك . كيف سيتحدث معه وسيول عينيه تملأ سماعة الهاتف وتفيض من حوله، كدوامة في البحر تخمد أنفاس من يدخل في لجتها . لماذا فتحت النافذة التي أغلقتها بمزاليج العالم كله يا سامي ، لماذا لم تتركني مع المجهول إلى النهاية ، أليس هذا أفضل من أن تقرأ علىَّ عريضة الحكم بإعدامي . دقات على الباب أخرجته من أفكاره المعتمة .
 
*******
 
 ، قفز ويده على مقبض الباب ، كان سامي ومعه ابتسامة باهتة ، تراجع أمامها للخلف ، لم ينتبه عادل أن سامي ترك الباب خلفه دون أن يغلقه تماما ، كل ما في ذهنه هذه الابتسامة الباهتة كعنوان في صفحة نعي بالجريدة ، نظر إليه سامي وقال بصوت باهت كابتسامته :
_ ما بك تزحف للخلف وكأنني شبح أمامك ، ما الذي تخشاه ، أنت تعلم بوضعك الصعب ولهذا هربت واختفيت هنا ، فما الذي تخافه ، بالعكس ما أظهرته النتائج أخف وطأة مما كان برأسك ، نعم أنت مصاب بالمرض ولكن سنبدأ العلاج فورا ، سأصطحبك للمستشفى وستتلقى العلاج هناك .
 ازدادت خطوات عادل المهرولة للخلف ، يدفع بيديه للأمام وكأنه يصد من يهاجمه وهو يصيح بصوت تقطعت إنياطه : 
_ لن أذهب للمستشفى ، لن أذهب للمستشفى ، أنك تريد أن تصطحبني لأموت هناك ، لن أغادر المنزل ، أنت قلت بأنني اختبأت هنا لأني أعلم بوضعي الصعب ، وضع اليائس من الحياة ويتعجل فراقها ، لماذا تريد إزعاجي ، هل لكي تطيل من أجلي بضعة أيام أنا لست في حاجة لها ، لن أذهب للمستشفى . 
نظر سامي إليه وكأن الأمر لا يعنيه وقال بصوت مثلج :
_ من فضلك لا تنهك أعصابي يا عادل ، فهيا أعد نفسك للذهاب للمستشفى فلقد أحضرت معي من سيصطحبك إلى هناك وهو ينتظر بالخارج .
لاحت لفتة من عادل نحو الباب ، لأول مرة ينتبه أنه لم يُغلق تماما ، إندفع نحو الباب ليغلقه وهو يصيح ، لن أذهب معك أو مع أي إنسان آخر ، قبل أن تصل قدماه للباب انفتح الباب ودخلت وصوتها يزغرد :
_ حتى لو كنت أنا التي ستصطحبك يا حبيبي .
قبل أن ينتبه عادل جيدا كانت ميرفت تسجنه بين أحضانها وتغلق فمه بقبلة محمومة .
تخلص عادل من بين ذراعيها ووجهه يبدو وكأنه ترك الصحوة ودخل في طور النعاس ، لسانه يلوك كلمات يخرج نصفها ويحبس نصفها بالداخل .. ميرفت .. ميرفت حبيبتي .. ميرفت حبيبتي لماذا قبلتني .. لقد ابتعدت عنك لأحميك من موتي .. لماذا تعرضين نفسك ياحبيتي للهلاك ؟!
لم تدع له ميرفت فرصة للمزيد واندفعت تقبله ثانية ، قبلة اثنتان آلاف القبلات .. تلقى لكزة في ظهره من أخيه سامي وهو يقول ضاحكا : 
_ ألا ترد لها قبلاتها أيها الثلاجة المتحركة ؟ 
 ضحكت ميرفت ضحكة تقول بأن السعادة لم يتبق منها شيء لأحد غيرها ، تسند رأس عادل لصدرها بقوة ، ألجمت المفاجأة كل كيانه ، همست في أذنه ، مبروك ياحبيبي ، نتائج التحليلات تقول بأن لا أثر للمرض في دمك . عادت حياة الدنيا كلها لكيانه المسترخي وأمسك بيديها يعتصرهما وهو يرد بصوت انتعش داخله الأمل : 
_ هل ما تقولينه صحيح يا حبيبتي ؟ 
أجاب سامي نيابة عنها وقد تحولت الابتسامة الباهتة المفتعلة على وجهه لضحكة متوردة ، قال وهو يطلق تنهيدة وكأنه يزيح من داخله كابوس الأيام الماضية :
_ نعم يا عادل ، كما قالت لك ميرفت ، النتائج كلها سلبية من المرض ، والتمثيلية التي أجدت تمثيلها عليك ، كانت من إخراج المخرجة البارعة ميرفت من أجل عقابك على هروبك. 
ألقى عادل بنفسه على المقعد كحائط ينهار وهو يجذب معه ميرفت لتجلس فوق ركبتيه ، يأسرها خلف أسوار ذراعيه وكأنه يخشى هروبها ، حاول أن يلفظ لكن دموعه لفظت كل شيء داخله ، انسابت لتهمس لدموع ناديه التي أبت إلا أن تصاحب دموعه ، عن أيام لو قيل أنها سوداء لاغتاب حقها ، دموع ميرفت تقبله هامسة ، كفى يا حبيي فمن اليوم سنعيدها بيضاء وخضراء بإذن الله  . صاح صوت سامي جذلاً .. هل سأظل أراقبكما لوقت طويل ، انطلقت ضحكاتهما لتعلن عودة الحياة والحب لكليهما .
 انتهت لحد ما المفاجأة التي يشعر بأنه غير قادر على استيعابها ، نظر إلى ميرفت وسامي وقال بصوت غير مصدق أنه صوته ، هل خففتم عني وقع المفاجأة التي تكاد تذهب بعقلي وتخبراني كيف تم كل هذا .
 ضحك سامي وقال :
_ عند حضوري إليك المرة السابقة ، قلت لك بأن ميرفت ، اتصلت بي ، وأخبرتني باختفائك ،  الحقيقة أن ميرفت بعد اختفائك أصبحت كمجنونة تبحث عن عقلها ، ظلت تجري هنا وهناك . وفي يوم وأثناء بحثها في المنزل عن أي دليل يقودها لمكانك ، عثرت على مذكرات من كانت تظنه أبيها ، ناجي عنايت ، وأيضا عثرت معها على الورقة التي سجلت بها أنت بعض الإيضاحات ، علمت ميرفت منها أن هناك منزلا لأسرتها في أمريكا ، سارعت بالاتصال بي وهي التي أوحت لي بفكرة البحث عنك هنا وصدقت  توقعاتها ووجدتك . لكن حفاظا على وعدي معك ، لم أخبرها بأني عثرت عليك إلا بعد أن علمت من نتائج التحليلات بأنك غير مصاب بهذا المرض اللعين . منذ يومين فقط . اتصلت بها فورا ، أخبرتها بكل شيء ، رجتني وهي تجهش بالبكاء ألا أخبرك عن شيء لأنها تريد أن تكون مفاجأة لك ، ويبدو أنها ألقت بنفسها داخل سماعة الهاتف وسبحت في أسلاكه حتى هنا .
 ظهر بعض التردد مع نظرة خجلة في عيني عادل ، أمسكت ناديه بيده وكأنها تشجعه على أن يستفسر عن سؤال هي تعلمه ، سرت حرارة يدها في جسده وشجعته ليبوح بسؤاله وهو ينظر إلى الأرض :
_ ولكن كيف تقول بأني خالي من المرض وحدث ما حدث في تلك الليلة المشئومة؟
_ التحليل الوحيد والمنطقي ، وبحسب ما أخبرتني به بأنك فقدت الوعي بعد احتسائك لبضعة كؤوس ، نعم ذهبتما للفراش معا لكن لم يحدث اتصال بينكما ، لأنك وقتها كنت غير صالح للقيام بهذا الاتصال وأنت فاقد الوعي وهذا من حسن حظك . أما ناديه عندما استيقظت وبحكم مرض انفصام الشخصية الذي تعاني منه ، توقعت بأنه تم الاتصال ، هاجمها صراع مرير لسببين أولهما لأنها اعتقدت أن المرض انتقل إليك ، والثاني أنها اعتبرت نفسها خائنة لأعز صديقة لها ، تغلب صراعها على كل قواها وانتهى الأمر بانتحارها.
 اغرورقت عيني ميرفت بالدموع وألقت برأسها فوق صدر عادل وقالت بصوت حزين 
_ كنت أتمني لو لم تنتحر ناديه ، وعملت ما في وسعي لعلاجها وتخفيف آلامها النفسية . 
قبلها عادل وهو يربت على رأسها كطفل صغير وهو يقول :
_ كم أحببت فيك هذا القلب المفعم بكل الخيرات . 
_ دعونا من هذا وهيا فزوجتي وابني كامي في انتظاركما ، ومسموح لكما أن ترتشفا بعضكما هناك .
ترددت في الجو ضحكة انقشعت أمامها كل أحزان الأيام السابقة وقالت ناديه وهي تحيط عادل بذراعيها :  
_ أنت مدين بوعد لبابا ناجي بأنك ستساعدني في البحث عن عائلتي ، هذا ما قرأته في المذكرات . 
_ سيسعدني هذا يا حبيبة قلبي ، على أن نحضر عليا وعلاء معنا.. قال عادل وهو يغلق باب المنزل بشدة خلفهما ، وكأنه يغلق على أيام العذاب التي أمضاها وحيدا بين جدرانه .