قبل سنواتنا العجاف وفي أيّام الرخاء والدلال والقرش الأبيض، الذي لم يُخبّأ لليوم الأسود في الغالب..... باع الكثيرون من أبناء قُرانا الساحليّة الجميلة الأصيلة حقولَهم وغابات أشجار زيتونهم وغيره، التي ورثوها عن آبائهم وأجدادهم ،وبأسعار ضئيلة ليشتروا بأثمانها بيوتاً أوسيّارات أو متاجر أو منازل استجمام على البحر، فيرتاحوا فيها من متاعب العمل وعرقه، ومن إنتاجها المتواضع، ويمتّعوا أنفسهم في هذه الحياة المرفّهة المصطنعة الجديدة.....
باعوها لتجّار العقارات وللأثرياء القادمين من أماكن بعيدة في سوريّة ليتنعّموا بنسيمها وفتنتها وفصولها المنوّعة بالحسن الهادئ النقيّ، الذي لايتوفّر إلّا فيها....
ومنهم من أشاد قصوراً فخمة فوق ربوعها ،ومنهم من تركها دون استثمار طمعاً في تضاعف أسعارها في المستقبل المجهول، وهي الآن مسارح للثعابين والضباع والثعالب ومقصداً لمن يفتّش مُتسوّلاً عن حطب الشتاء فلا أحد يشتري ولا أحد يبيع بسبب مانحن عليه من قلق واضطراب وشلل ،فليرتنا الغالية تضمحلّ يوماً بعد يوم، وأصبح تركيز الناس موجّهاً إلى المدينة هرباً من الريف الطيّب الذي يعتبره أغلبهم مكاناً للفقر فيسخرون ممّن ينتقل من المدينة إلى الريف طواعية، ويعتبرونه ليس شاطراً ، ويتّهمونه بالرومانسيّة الحالمة، التي لاتُطعم خبزاً ولاتمراً، وبالطيبة التي أصبحت غباءً وأكثر من ذلك...
والقسم الأكبر ممّن سكن المدينة حديثاً يعيش في بيوت كعلب الكبريت، لا ترى غرفها ضوء الشمس إلّا خافتاً وهي تتمتّع بالتلوّث الضجيجي وغيره من صنوف الفوضى واللاحريّة...
وفي أيّامنا هذه وفي ظلّ الكورونا الخبيث المُفتعَل والغلاء الفاحش وخاصّة في أسعار الخضار والفواكه وغيرهما وفي ظلّ انقطاع الوقود والغاز ...
فقد ندم من باع أرضه وبيته القرويّ ...
فقد كان ريفنا ملجأ كريماً وكانت قُرانا الأمّ الحنون التي تضمّ أبناءها إلى صدرها الطيّب المُحبّ...
لم أرَ في حياتي مارأيته هذا العام فأغلب الساكنين الريف وفي ظلّ الإجراءات الوقائيّة التي اعتمدتها حكومتنا ، كانوا يلجؤون لاقتلاع عشرات الأنواع من الأعشاب من بساتينهم كالهندباء المفيدة اللذيذة وسواها، والتفتيش في البراري المجاورة عن دواء طبيعيّ مجّانيّ للكثير من الأمراض كأعشاب الزعتر والزّوفا والزوبع وثمر الخرنوب وزهر الزعرور....
وأمَلُ أغلبهم بأن يعودوا إلى الاهتمام بحقولهم و لو كانت مساحتها قليلة ويزرعوها القمح و البندورة والخيار والنعنع والبطاطا والبصل والثوم والزعتر وسوى ذلك....
لعلّهم يكتفون ويبعدون شبح الجوع والمرض عن منازلهم وأجسادهم ويحاربون شجع بعض التجّار والأطبّاء وتحكّمهم بلقمة عيشهم وصحّة أبدانهم ويحاربون حصاراً على سوريّتنا لا يعلم إلّا الله متى ينتهي.