أخبار عاجلة
نفوق 3 رؤوس ماشية فى حريق مزرعة بالدقهلية -

الدكتور أسامة أديب يكتب: تداخل الكناية و الاستعارة في البلاغة العربية

الدكتور أسامة أديب يكتب: تداخل الكناية و الاستعارة في البلاغة العربية
الدكتور أسامة أديب يكتب: تداخل الكناية و الاستعارة في البلاغة العربية

 إنّ ضعف اللغة العربية ظهر في القرن الخامس، وهي في ريعان شبابها ؛ الأمر الذي دفع الشيخ عبد القاهر الجرجاني إمام اللغة في عصره إلى تدوين علم البلاغة ووضع قوانين للمعاني والبيان، وكان سبقه في ذلك بعض البلغاء كالجاحظ و قدامه والكاتب وابن دريد .

و الاختلاف في حقيقته موضوع شائك يثير في نفس صاحبه الكثير من الهواجس والمخاوف، والمقبل عليه كمن يقحم نفسه في عملية فرز لشبكة معقدة من الخيوط ، اختلط بعضها ببعض.    .

 

و اللغات تتفاضل في حقيقتها وجوهرها بالبيان ، وهو تأدية المعاني التي تقوم بالنفس تامة على وجه يكون أقرب إلى القبول ، وأدعى إلى التأثير، وإنّا لنجد أنفسنا أمام موروث بلاغي ضخم  تجمّع عبر قرون، بوجهات نظر مختلفة لدى علماء البلاغة. 

 وإذا ما تأملنا ذلك ملياً، وجدنا من مظاهر التداخل بين الكناية والاستعارة الكثير، وهذا ما نلتمسه عند الشريف الرضي حيث يجمع الكناية والاستعارة في قوله تعالى "ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كلً البسط"   فقال:" وهذه استعارة وليس المراد باليد التي هي الجارحة على الحقيقة وإنما الكلام الأول كناية عن التقتير والكلام الآخر كناية عن التبذير"  

ولم يقتصر هذا التداخل بين الكناية والاستعارة على مراحله الأولى بل تعداه إلى مرحلة النضج والاكتمال .فنجد ابن الأثير  يجيز أن يكون الكلام استعارة وكناية " وذلك باختلاف النظر إليه بمفرده والنظر إلى ما بعده كقول نصر بن سيّار في أبياته المشهورة، والتي يحرض بني أمية عند خروج أبي مسلم:

أرى خلل الرماد وميضَ جمرٍ    ويوشكُ أن يكون له ضرامُ

فإنّ النار بالزَندَينِ تـــــــورى    وإنّ الحرب أوَلُها كـــــلامُ

نجد في البيت الأول كناية؛ لأنه يجوز حمله على جانب الحقيقة وحمله على جانب المجاز، وأما الحقيقة فإنه رأى وميض جمر في خلل الرماد وأنه سيضطرم، وأمًا المجاز فإنه أراد أن هناك ابتداء شرّ كامن ومثّله بوميض جمر منة خلل الرماد، وإذا ما نظرنا إلى لبيتين نجد أنه اختصّ البيت الأول منها بالاستعارة  من دون الكناية" .  

وبناءً على قول ابن الأثير هذا فإن الاستعارة أعم من الكناية، لأن كل كناية مبنية بناء الاستعارة .أما نسبة الكناية إلى المجاز عنده " نسبة جزء الجزء وخاص الخاص"؛ لأن الاستعارة جزءاً من أجزاء المجاز. أي إذا كنّى بالاستعارة يستغني عن اللفظ ونستعير له لفظاً آخر للدلالة على المعنى المراد التعبير عنه، وكذلك الكناية لا نذكر المعنى باللفظ الموضوع له ولا نعبر عنه بصريح لفظه وإنما نأتي بما هو لازم لهذا اللفظ فنكني به عنه.

وهو يفرق بين الكناية والاستعارة من وجه آخر فيقول:" الاستعارة لفظها صريح والصريح هو: ما دلّ عليه ظاهر لفظه، والكناية ضد الصريح،لأنها عدول عن ظاهر اللفظ، وهذه ثلاثة فروق أحدها الخصوص والعموم، والآخر الصريح، ولآخر الحمل عل جانب الحقيقة والمجاز"  

ونلفي أن ابن الأثير يستعمل بعض الألفاظ بعموم معناها فلا يعرف المقصود بالصريح .

وأما الفرق الأخير وهو على جانب الحقيقة والمجاز ففرق واضح يثبت للكناية، وينتفي عن الاستعارة ؛ كون الاستعارة لا تخلو من قرينة مانعة من إرادة المعنى الأصلي، وهذه القرينة تتضح من خلال ما في تركيبها من خرق لقواعد اللغة.. والكناية مبنية على عدم منافاة الحقيقة؛ لأنّ تركيبها مألوف اللغة.

وبدا الفرق أكثر وضوحاً عند العلوي الذي راح يشرح تعريفه للكناية ويعلل ما فيه من شروط ، وأما ما يتعلق بالاستعارة قال:" وقولنا على جهة التصريح يحترز به عن الاستعارة فإنّ دلالتها على ما تدل عليه من جهة صريحها، إما من غير قرينة كدلالة الأسد على الحيوان، وإما مع القرينة كدلالة الأسد على الإنسان البطل الشجاع.       فكلاهما مفهوم من جهة الصريح ، بخلاف الكناية فإنّ الجماع ليس ضرورياً من قوله تعالى" فأتوا حرثكم" وإنما هو مفهوم على جهة التبع"   

فنجده يعلق على الاستعارة في الأمثلة التي ضربها باللفظ المفرد ؛ لذلك جعل كلمة الأسد دالة على الحيوان تارة بغير قرينة، وهي دلالة الكلمة على حقيقتها وأصل وضعها ولا استعارة فيها، وقد تكون دالة على غي معناها وهنا تحتاج إلى قرينة مانعة من إرادة المعنى الحقيقي ولا تعرف إلا من خلال التركيب الذي ترد فيه اللفظة.أما الكناية فهي التعبير عن المعنى لا بصريح اللفظ وظاهرة وإنما بما يكون تابعاً أو لازماً له.

ولبسيوني عبد الفتاح فيود مذهبه في الفرق بين الكناية والمجاز في كتابه علم البيان  بقوله:" ويختلف أسلوب المجاز عن أسلوب الكناية في أنّ المجاز يشتمل على قرينة تمنع من إرادة المعنى الأصلي للفظ... وكذلك الاستعارة... أما القرينة في أسلوب الكناية فإنها لا تمنع من إرادة المعنى الأصلي "  

وقريب من هذا ما أشار إليه محمد مصطفى هدّارة بقوله:" والذي يفرق بين الكناية والمجاز عدم وجود قرين تمنع من  إرادة المعنى الحقيقي  في الكناية، بينما يشتمل أسلوب المجاز على قرينة تمنع من إرادة المعنى الأصلي"

ويمكننا أن نسجل ملاحظة اختلاف الصياغة بين إثبات وجود قرينة لكنها غير مانعة من إرادة المعنى الحقيقي في الكناية، ونفي وجود هذه القرينة المانعة من إرادة المعنى الحقيقي إطلاقاً لكنّ المعنى واحدا وهو أن المعنى الحقيقي في الكناية لا مانع من إرادته.

   وبالتالي نلفي أن اختلاف الرأي لا يفسد للود قضيةً، هذه العبارة شائعة الاستعمال عممت لتصبح واحدة من أهم العبارات وأشهرها  بين فئات المتبادلين رأياً.   

حيث طرح علماء البلاغة تداخل الكناية والاستعارة على طاولة النقاش فوجدنا لكل منهم وجهة نظره أو رأيه أو انطباعه الشخصي حول الموضوع  المطروح، مستشهداً بأدلته التي تؤيد حجته، وتقوي مذهبه مثبتاً ذلك بالنص وفق حوار عقلاني هدفه الوصول إلى جوهر الحقيقة وتعميمها، ليرسي سفينته في نهاية الأمر إلى شاطئٍ يسوده السماحة في التعامل وتقبل الرأي والرأي الآخر، مع من وقف موقفاً وسطياً بين بليغ وآخر.

وما هذا التداخل بين الكناية والاستعارة، إلّا متعة جمالية تحمل القارئ إلى تذوق طيب البلاغة العربية وعبق فنونها بوجه عام، وبهاء بيانها من قطوفها الدانيات على غصنٍ أملودِ بوجه خاص .

 

 

 

...................................................................................................