سمع محمد على باشا «والى مصر» أول طلقة، فوقف وامتقع لونه، وعلا الاصفرار وجهه، وتنازعته الانفعالات المختلفة، وأخذ يسمع دوى الرصاص وصيحات الذعر والاستغاثة وهو صامت، إلى أن حصد الموت معظم المماليك «470»، وأخذ صوت الرصاص يتضاءل إعلانا بانتهاء المذبحة التى وقعت يوم الخميس 1 مارس من عام 1811، حسب «عبدالرحمن الرافعى» فى كتابه «عصر محمد على» عن «دار المعارف - القاهرة»، مضيفا، أن طبيب محمد على، المسيو «ماندريش» الإيطالى دخل عليه وقال له: «لقد قضى الأمر واليوم يوم سعيد لسموكم»، فلم يجب الباشا بشئ، وطلب قدحا من الماء فشرب منه جرعة طويلة».
الحدث هو «مذبحة المماليك» التى دبرها الباشا فى «القلعة»، وطبقاً لـ«الرافعى»، فإن محمد على دعا أعيان المماليك إلى احتفال كبير بمناسبة تنصيب ابنه «طوسون» قائداً لحملة تتوجه إلى الحجاز لمحاربة الوهابيين، ولبى المماليك الدعوة وتوجهوا فى أبهى زينة وأفخم هيئة، وبلغ عدد المدعوين نحو 10 آلاف شخص منهم 470 من المماليك وأتباعهم وكبار القوم، ومختلف الطوائف، وتناولوا الغداء، وأطلقوا الغناء، حتى نادى المنادى برحيل الموكب، فعزفت الموسيقى وانتظم قرع الطبول، وبدأ الموكب فى السير منحدرا من القلعة إلى «باب العزب».
يضيف «الرافعى»: «لم يكد الجنود يصلوا إلى هذا الباب حتى ارتج الباب الكبير بإغلاقه من الخارج فى وجه المماليك، وتحول الجنود بسرعة عن الطريق ليتسلقوا الصخور على الجانبين وأمطروا المماليك بالرصاص، الذين حاولوا الفرار لكن البنادق كانت تحصدهم من كل مكان بلا رحمة، حتى بلغ ارتفاع الجثث فى بعض الأمكنة إلى أمتار، وتمكن بعضهم من الوصول إلى «طوسون باشا» راكبا جواده منتظرا أن تنتهى تلك المأساة، فتراموا على أقدامه طالبين الأمان، ولكنه وقف جامدا لا يبدى حركة، وعاجلهم الجنود بالقتل».
يعطى «الرافعى» وصفاً لحالة سكان القاهرة قبل المذبحة، قائلا: «كانت الجماهير يعلوها الابتهاج محتشدة فى الشوارع المعدة لسير الموكب تنتظر مروره، ومرت طليعة الموكب بين جموع المتفرجين، وأخذ الناس يترقبون بلهف مرور الصفوف التى تليها، ثم انقطع تلاحق الصفوف، وفيما هم ينتظرون قدوم الصفوف المتأخرة سمع المحتشدون فى ميدان الرميلة أسفل القلعة صوت الرصاص يدوى فى الفضاء بعد أن أقفل باب العزب، فسرى الذعر إلى الناس، إذ وصل خبر المذبحة إلى الجماهير القريبة من القلعة، وصاح صائح: «قتل شاهين بك»، وسرعان ما ذاع الخبر بسرعة البرق إلى مختلف الأنحاء فتفرقت الجماهير وأقفلت الدكاكين والأسواق، وهرع الناس إلى منازلهم، وخلت الشوارع والطرقات من المارة».
يواصل الرافعى: «أعقب هذا الذعر نزول جنود محمد على إلى المدينة يقصدون بيوت المماليك فى أنحاء القاهرة، فاقتحموها وأخذوا يفتكون بكل من يلقونه فيها من أتباعهم، وينهبون ما تصل إليهم أيديهم، ويغتصبون من النساء ما يحملن من الجواهر والحلى والنقود، واقترفوا فى ذلك اليوم واليوم الذى تلاه من الفظائع ما يقشعر منه الأبدان، ولم يكتفوا بالفتك بمن يلقونه من المماليك، ونهب بيوتهم واغتصاب نسائهم، بل تجاوزوا بالقتل والنهب إلى البيوت المجاورة، وبلغ عدد المنازل التى نهبوها خمسمائة منزل».
تواصل القتل والنهب فى اليوم التالى السبت 2 مارس «مثل هذا اليوم» عام 1811، مما اضطر محمد على إلى النزول من القلعة فى صباح ذلك اليوم، وحوله رؤساء جنده وحاشيته، وحسب «الرافعى»: «مر بالأحياء المهمة، وأمر بقطع رؤوس من استمروا فى النهب والاعتداء، وكذلك فعل ابنه طوسون باشا»، ويقول الزعيم الوطنى محمد فريد فى كتابه «البهجة التوفيقية فى تاريخ مؤسس العائلة الخديوية» عن «دار الكتب والوثائق القومية - القاهرة»: «استمر القتل من صحوة النهار إلى مضى جزء من الليل على المشاعل، وفى صحوة ثانى يوم «2 مارس» ركب الباشا من القلعة بموكب حافل ومنع النهب ودخل بيت الشرقاوى وجلس عنده ساعة لطيفة، وكذا ابنه طوسون دخل البلد ومنع العسكر من الإفساد والنهب، وأرسل الباشا إلى القرى والبلدان بضرب عنق من وجدوه بها من الكشاف التابعين للمصريين «المماليك» فضربت أعناقهم ومات فى هذه الواقعة نحو الألف ما بين أمير وكاشف وجندى، وكانوا يحملونهم على الأخشاب ويرمونهم عند المغسل بـ«الرميلة» وقد جردوهم من ثيابهم وألقوهم بحفرة من الأرض»، يؤكد فريد: «ما تواتر على الألسن بأن أمين بك عندما حصلت المذبحة هم بجواده فوثب به من فوق السور لجهة الميدان فقتل جواده وسلم هو فقط، فذلك أمر مبالغ فيه إن لم يكن محض اختلاق».
هذا الخبر منقول من الموجز