في أزمنة الجوائح كن يقظا أخي العزيز واضعا كل الاحتمالات نصب عينيك هذا ليس للقارئ وحسب بل لصانع القرار في المقام الأول وللممارسين الصحيين الذين يحملون على عاتقهم مهام جليلة في ظرف استثنائي شديد الدقة فالفيروس يأبى إلا ويعطينا دروسا قيمة في فن إدارة المخاطر الصحية وهو من العلوم الرائعة التى لا غنى عن إجادتها وتطبيق نظرياتها .
من المخاطر التى يتردد صداها بين صفحات الدراسات في الفترة الأخيرة احتمالية حدوث الشلل الرعاش (باركنسون ) لدى مصابي كوفيد 19 نظرية حفتها مخاوف من تكرار ما حدث إبان الانفلونزا الإسبانية عام 1918 وما تلاها بعد سنوات قليلة من تضاعف حالات باركنسون بنحو ثلاثة أضعاف!! .
بداية ما هو مرض باركنسون ؟ هو مرض عصبي يؤثر في حركة الجسم مسببا رعشة وتيبس العضلات وقد اتخذت الجمعية الأوروبية لباركنسون زهرة الخزامى الحمراء البيضاء رمزا لمكتشفه حيث يعود الفضل في اكتشافه للطبيب الإنجليزي جيمس باركنسون عام 1817 أما السبب في حدوثه ففي أشهر النظريات نتيجة لتراكم بروتين α-syncuclein مما يحدث نقصا في الدوبامين وهو الناقل العصبي المسؤول عن حركات الجسد.
ولكن كيف يستطيع كوفيد 19 إحداث باركنسون في مرضاه إذن؟!
تشير الدراسات إلى إحداث كوفيد 19 لتغييرات في بنية بروتينات الرئة لدى المصابين مما يلحق بها الخلل فتنتقل لخارج الرئة إلى الدماغ عبر آلية exosomes وهناك ترتبط ببروتينات الجهاز العصبي المركزي مسببة الخلل بها وتحديدا بروتين Rab7A وهو بروتين صغير لكن له فائدة عظيمة في تنظيف الخلايا والتخلص من ترسبات α-syncuclein -والذي أشرنا له كمسبب لباركنسون- وبالتالي فالخلل الذي أصاب هذا البروتين الصغير يعرقل دوره في التنظيف ويفتح الباب على مصرعيه للإصابة بباركنسون.
هذا في إحداث باركنسون من العدم فماذا عن تأثير كوفيد 19 على مرضى مصابين بباركنسون بالفعل ؟بالطبع التأثير مزعج للغاية صحيح أن مرضى باركنسون لا يعانون ضعفا بالجهاز المناعي لكن تراجع وظائف العضلات لديهم ومنها عضلات الجهاز التنفسي تزيد من صعوبة التنفس بعمق للتزود بالأكسجين الكافي للرئتين مما يزيد من مخاطر المضاعفات عند إصابتهم بكوفيد فضلا عن أن باركنسون مرض غالبية مرضاه من كبار السن وهو مكمن للخطورة المضاعفة.
نأتي إلى عرض أخر لا يقل إزعاجا وهو علاقة كوفيد بالخصوبة لدى الرجال .
وهنا تتأرجح الدراسات بين مؤيد لمسؤولية الفيروس عن تدهور جودة السائل المنوي حتى ستين يوما بعد الإصابة وانخفاض تركيز الحيوانات المنوية وقدرتها على الحركة وتعرضها للتشوه وانخفاض مستوي هرمون التستوستيرون فيما حاول بعض العلماء وضع احتمالات لهذا التأثير الضار على الخصوبة بمفازاة عن الفيروس القابع دوما في قفص الاتهام من بينها السمنة لدى بعض مصابي كوفيد 19 أو بسبب الأدوية التي يتعاطونها كالفافيبيرافير مثلا- وهو الدواء الياباني الشهير المعروف بالافيجان وقد دخلت في تجربة سريرية للعلاج به عند إصابتي بكوفيد في ديسمبر الماضي وكان الإقرار informed consentيتضمن أعراضه بوضوح- لكن الواضح أن الفيروس له قدرة على مهاجمة خلايا الخصية والتضاعف بها ملحقا بها الضرر بشكل أو بآخر لذلك من الأفضل فحص القدرة الإنجابية للمتعافين من فيروس كوفيد 19.
ثمة سؤال هام تجيب عليه الإبحاث ما السبب الذي يجعل بعض المرضى يصابون بأعراض بالجهاز الهضمي فيما لا يتعرض البعض الآخر لها ؟ الإجابة على هذا السؤال تبدو في عاداتنا الغذائية الخاطئة والتي قد تقضي على البكتريا الطبيعية النافعة التي تعيش في المعدة والأمعاء مثل Bifidobacteria والتي تمتلك تأثيرا مضادا لكوفيد 19 لكونها تتصدى لعاصفة السيتوكينات التي يحدثها الفيروس مما يفتح المجال أمام دور محتمل للمعززات الحيوية probiotics لتكون من الخيارات الوقائية ضد كوفيد 19.
د.محمد فتحي عبد العال
كاتب وباحث مصري
مارثون أعراض كوفيد 19 الجزء الثالث
ثمة سؤال هام يطرحه البعض حول كوفيد 19 لماذا يرافقنا الصداع كصديق حميم بعد الأصابة ولمدة طويلة؟
يمتاز الصداع المصاحب لكوفيد بسمات مميزة جعلته يطلق عليه صداع كورونا فهو صداع متدرج من معتدل إلى حاد القوة يتبعه شعورا بنبض أو ضغط على جانبي الرأس ويزداد في السوء عند الانحناء .
والتفسيرات تجنح في اتجاه خلايا الدم المونوسيت غير الكلاسيكية nonclassical monocytesوالتي تقبع في أجساد المتعافين بعد مضي 15يوما من الإصابة وهي قادرة على الالتصاق ببطانة الأوعية الدموية و عبور الحاجز الدماغي الوعائي والالتحام بمستقبلاتها مسببة الإلتهاب عبر تحرير الكيموكين دلتا fractalkine/CX3CL1 وهو من عائلة السيتوكينات الإلتهابية الصغيرة ويعمل على توسعة الأوعية الدموية مسببا الصداع .
وهل هذا هو التفسير الوحيد لهذا الصداع وماذا عن باقي الأعراض الأخرى ؟بالطبع إلصاق التهمة بعاصفة السيتوكين التي يتمخض عنها الفيروس كسبب رئيسي لكن ليست وحدها السبب فقد كشف العلماء مؤخرا علاقة تربط بين فيروس كوفيد 19 وفيروس ابشتاين بارEpstein-Barr أو فيروس الهربس البشري المسبب للحمى الغدية حيث وجد هذا الفيروس في فحوص الدم لمصابي كوفيد 19 ومن أعراضه الأرهاق الشديد والطفح الجلدي والصداع والحمى وقد يمتد أثره ليطال الطحال مضخما إياه والكبد مسببا انتفاخه وهو ينتقل عبر سوائل الجسم كاللعاب والدم والسائل المنوي .بالطبع تبدو أعراضه للوهلة الأولى ليست خطيرة وعادة ما يتحسن مرضاه في غضون أسبوعين إلى شهر لكن إشكاليته الحقيقية في كونه فيروس مؤبد فقد تصاب به وتتعافى لكنه لا يرحل ويبقى كامنا ومنتظرا لمن يعيد تنشيطه من جديد وربما كانت قدرة كوفيد على تحفيز هذا الفيروس هي السبب في ملازمة بعض الأعراض كالأرهاق والطفح الجلدي والصداع لبعض المرضى .
الحقيقة أن حلقة اليوم ربما يغلب عليها كثير من السوداوية لذا لزاما أن نطرح أمرا فيه كثير من الطرافة والدعابة وقبل أن نمضي في طرفتنا العلمية نطرح سؤالا هل سمعت يوما عن الجاشنكير؟
ربما قرأت في التاريخ المملوكي لتعرف معنى هذه الوظيفة الهامة في حياة الحكام والسلاطين ألا وهي وظيفة متذوق الأطعمة وهي ليست بالوظيفة السهلة فعلاوة على كونها وظيفة خطرة قد تودي بحياة صاحبها إذ من واجباته أن يتناول الأطعمة والأشربة قبل السلطان أو الملك حذر الموت بالسم الزعاف فهي أيضا وظيفة تعتمد على الذوق الرفيع وحديثا اكتشف الباحثون جين مستقبلات الطعم المر ويسمى TAS2R38 والذي عادة ما يحمل المرء نسخة واحدة منه ولكن حينما يجتمع للشخص نسختين من هذا الجين من أبويه هنا نطلق عليه الذواقة!!!.
وقد وجد أن تنشيط جين مستقبلات الطعام المر يؤدي إلى تعزيز المناعة عبر إنتاج أكسيد النيتريك الذي تحركه أيونات الكالسيوم وكلاهما له دور مناعي فأكسيد النيتريك قادر على تدمير الميكروبات و أيونات الكالسيوم تحفز الخلايا التنفسية لإطلاق مضادات الميكروبات ..
د.محمد فتحي عبد العال
كاتب وباحث مصري