د. هالة مصطفى تكتب: الحالة القطرية

د. هالة مصطفى تكتب: الحالة القطرية
د. هالة مصطفى تكتب: الحالة القطرية

قطر حالة استثنائية فى المنظومة الإقليمية والدولية, ومثال فريد للازدواجية السياسية, والخلاف حول دورها وسياساتها التدخلية فى شئون الدول الأخرى سواء فى محيطها الخليجى أو على مستوى المنطقة ككل ليس جديدا, بل يرجع إلى ما يزيد على عقدين من الزمان، الجديد هنا هو قرار المواجهة الذى اتخذته القوى الكبرى فى الإقليم وفى مقدمتها السعودية ومصر والامارات والبحرين, فإجراءات المقاطعة الصارمة برا وجوا وبحرا ستُفضى إن آجلا أو عاجلا إلى عزلها تماما مالم تراجع مسارها وتُعدل من سياساتها.

استفادت قطر طويلا من المناخ الدولى والصراعات والحروب الإقليمية للعب على المتناقضات وممارسة نفوذ يتجاوز حجمها بكثير, خاصة مع امتلاكها فوائض مالية ضخمة وقنوات إعلامية تستغلها لنفس الهدف, وبالقطع كانت ثورات الربيع العربى فرصة أخرى لاتساع دورها وتشعبه إلى حد الطموح فى إعادة تشكيل أنظمة الحكم والنظام الإقليمى برمته.

فالمعروف أنها حليف طبيعى للسعودية بحكم عضويتها فى مجلس التعاون الخليجى, وهى جزء من التحالف الإسلامى الذى تقوده المملكة ضد انقلاب الحوثيين فى اليمن ولكنها فى الوقت نفسه تتعاون مع إيران التى تدعمهم, كذلك أصبحت من أكبر داعمى وممولى الأفراد والجماعات والتنظيمات المسلحة على الجانبين السنى والشيعى, أى الإخوان والسلفيين والتكفيريين من القاعدة إلى جبهة النصرة وما تفرع عنهما, مثلما تناصر حزب الله والمعارضة الشيعية فى الخليج, وبنفس المنطق تدعم حماس بشدة وتحتفظ فى المقابل بعلاقات جيدة مع إسرائيل, والأكثر من ذلك أن جميع من تناصرهم هم على عداء سافر مع الولايات المتحدة التى تمنحها حق إقامة أكبر قاعدة عسكرية فى الشرق الأوسط على أراضيها ومنها انطلقت عملياتها فى أفغانستان والعراق وتستخدمها الآن فى حربها على داعش, لذلك وصفتها مجلة «فورين بوليسى» أخيرا فى تقرير مطول نُشر أواخر الشهر الماضى بأنها «حليف ذو وجهين» يجيد مسك العصا من المنتصف.ورغم ذلك فمن الصعب تصور أن هذه الحقيقة كانت غائبة عن صانع القرار الأمريكى أو أنها لم تُكتشف إلا أخيرا, إنما الأرجح أن التغاضى عنها كان مقصودا, فحتى اللحظة الأخيرة من حكم الإدارة الأمريكية السابقة, كان الانفتاح على القوى الإقليمية المتنافسة هو المنهج المعتمد, وتوقيع الاتفاق النووى مع طهران الخصم التقليدى لواشنطن لم يكن سوى الوجه الظاهر لصفقة سياسية أشمل تسمح لها بتقاسم النفوذ مع السعودية وتُوجد لها قدما فى كل الملفات المفتوحة من سوريا والعراق إلى اليمن فى محاولة لرسم خريطة جديدة للشرق الأوسط, وهى نفس السياسة التى تبنتها على المستوى الداخلى لدول المنطقة, أى فتح قنوات الاتصال مع الجميع بمن فيهم الإخوان المسلمون الذين شكلوا فى مرحلة ما البديل الجاهز الوحيد لأنظمة الحكم القائمة, بل ولم تمانع فى وصولهم للسلطة فى أكثر من بلد عربى. ونفس الشىء قد يصدق على الجماعات المتطرفة التى سعت الولايات المتحدة لاختراق صفوفها بحثا عن معلومات استخباراتية تُسهل لها تعقبها وضرب رموزها.

بعبارة أخرى, إن سياسة قطر التى شكلت لغزا إقليميا محيرا, لا يمكن اختزالها فى طموح زائد لدولة صغيرة أو اعتبارها مجرد مهارة سياسية, وإنما ــ وهو الأقرب للمنطق ــ أنها كانت تُوظف لصالح استراتيجية دولية أكبر, أى أن دورها تابع وليس أصيلا, مهما كانت درجة استفادتها الذاتية منه, ولذلك عندما جاء دونالد ترامب بسياسة مغايرة تقوم فى الأساس على التصدى للنفوذ الإيرانى واعتباره أولوية قصوى على النقيض من سلفه باراك أوباما, من خلال تشكيل تحالف عربى إسلامى يعيد القيادة الإقليمية إلى السعودية, مثلما تجسد فى قمة الرياض, خرجت الانتقادات لقطر إلى العلن. لكن السؤال إلى أى مدى يمكن أن تذهب؟

هنا تُثار قضيتان أساسيتان, الأولى تتعلق بمستقبل القاعدة العسكرية التى تستضيفها الدوحة, والتى قال عنها ترامب فى نفس القمة إنها حاسمة لإستراتيجية بلاده فى المنطقة، إضافة إلى صفقة السلاح التى تصل لــ 12 مليار دولار. والأخرى, تتمثل فى الموقف الأمريكى من جماعة الإخوان, وهو موضوع اتهام رئيسى لقطر. والمعروف أن هذه القضية تحديدا طُرحت فور توليه السلطة ليس فقط على مستوى البيت الأبيض, ولكن أيضا من خلال مشروع قانون كان المفترض تقديمه إلى الكونجرس, لإدراجها على قائمة الإرهاب ثم لاشىء بعد ذلك.

فى هذا الإطار يمكن أيضا التطرق لمواقف الدول الأوروبية خاصة الكبيرة منها مثل-فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة, التى وإن انتقدت فى العموم سياسة تمويل الجماعات المسلحة, إلا أنها دعت إلى حل الأزمة دبلوماسيا والابتعاد عن التصعيد محذرة من «حرب محتملة», كما قال وزير الخارجية الألمانى، ومن هنا أيضا جاءت «الوساطة» التى سيقوم بها الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون.

هذا الموقف الذى يبدو رماديا يخفى وراءه مصالح اقتصادية هائلة واستثمارات تقدر بمليارات الدولارات, وتكفى الإشارة إلى أن كبرى الشركات الألمانية والفرنسية تستحوذ وحدها على الجانب الأعظم من مشاريع البنية الأساسية الخاصة بالإعداد لمباريات كأس العالم 2022 المزمع إقامتها بقطر, فى حين تظل سياسة بريطانيا غامضة, وهو أمر مفهوم كونها هى ذاتها استضافت على مدى عقود طويلة شخصيات وقيادات منتمية لمختلف التيارات الإسلامية.

ومن الناحية الإقليمية, فليس من المنتظر أن تتخلى قطر بسهولة عن الارتباط بإيران حتى وإن خفضت من مظاهره العلنية نتيجة الحصار الأخير, فبخلاف الأسباب السياسية التى تجمعهما, هناك شراكة اقتصادية وتجارية حيث تملك طهران حصة فى واحد من أضخم حقول الغاز القطرية. ونفس الشىء قد ينطبق على تركيا, وهى نفسها من أكبر داعمى الإخوان, والتى وقعت معها اتفاقية لإقامة قاعدة عسكرية على أراضيها (2014) ووُضعت موضع التنفيذ فى الأيام القليلة الماضية.

يبقى القول إن قرار مواجهة من يمول الجماعات الإرهابية, هو خطوة مهمة فى الطريق الصحيح, ولكنها بحكم التعريف ليست سهلة, خاصة أنه سيكشف عن دول وأجهزة مخابرات أخرى تقوم بما تقوم به قطر.

 

ناتو عربى

ستظل قمة الرياض من القمم الاستثنائية فى تاريخ العلاقات الدولية والإقليمية, ليس فقط لأن دولة عربية إسلامية كانت المحطة الأولى فى الزيارات الخارجية التى يقوم بها رئيس أمريكى فور توليه السلطة بخلاف القواعد المستقرة, ولا لأنها اتسعت فى لقاءاتها من المستوى الثنائى والخليجى إلى المستوى العربى والإسلامى ككل, ولكن وهو الأهم لأنها قد تمثل نقطة تحول فارقة سيتحدد على أثرها مستقبل الشرق الأوسط أوالنظام الإقليمى فى صورته الجديدة.

النتائج السريعة والمباشرة للقمة تمثلت فى عقد أضخم صفقة سلاح بين السعودية والولايات المتحدة (110 مليارات دولار ستصل إلى ما يزيد على 300 مليار خلال عشر سنوات) وأخرى لا تقل عنها فى الجانب التجارى والاستثمارى, وهى بالطبع صفقات لا تدور فى فراغ سياسى, وإنما تؤخذ كمؤشر على إعادة صياغة التحالفات والأهداف فى إطار من المصالح المتبادلة بين الطرفين, والتى ستنعكس آثارها بالضرورة على كل دول الإقليم.

قبيل القمة تحدثت مصادر فى البيت الأبيض ومعها كبريات الصحف الأمريكية (واشنطن بوست, وول ستريت جورنال) إضافة إلى الإندبندنت البريطانية, عن مشروع كبير يهدف إلى بناء تحالف عسكرى بين الدول السنية تحديدا التى تستشعر خطرا من تمدد النفوذ الإيرانى الشيعى فى المنطقة ويتشكل فى الأساس من الدول المعتدلة (السعودية ومصر والأردن والإمارات) ثم تلحق بها تباعا دول خليجية أو عربية أو إسلامية أخرى, أى على غرار حلف «الناتو» وأن صفقات السلاح العملاقة التى ستحصل عليها السعودية ستؤهلها لأن تكون القوة المركزية للحلف المقترح, الذى ستقدم له الولايات المتحدة جميع أشكال الدعم ولكنها على عكس موقعها فى الناتو لن تصبح عضوا فيه. وهى نفس المعلومات التى أكدتها مراكز الأبحاث الأمريكية القريبة من صناعة القرار, وإن أرجع بعضها الفكرة إلى نهاية التسعينيات وأشار البعض الآخر إلى محاولة شبيهة طرحت فى 2015 كان من المفترض أن تشمل المغرب والسودان, وأخيرا أكدها الجنرال مايكل فلين عقب إقالته من منصبه كمستشار للأمن القومى فى إحدى جلسات الاستماع بالكونجرس. المعروف أن حلف الناتو (منظمة حلف شمال الأطلنطى) الذى تأسس فى أعقاب الحرب العالمية الثانية بموجب معاهدة واشنطن (إبريل 1949) ضم فى البداية مجموعة من دول أوروبا الغربية ومعها الولايات المتحدة التى تمتلك القوة العسكرية الكبرى داخل الحلف, ثم اتسعت العضوية تدريجيا حتى وصلت إلى 28 دولة ليصبح أكبر منظمة دفاعية فى العصر الحديث, وأنه فى بداياته كان موجها فى الأساس ضد عدو واحد رئيسى هو الاتحاد السوفيتى وحلف وارسو إبان الحرب الباردة, قبل أن يتفكك الأخير وتنضم أغلب دوله إلى الناتو. ورغم أن الهدف الأول كان حماية أعضائه من أى خطر أو اعتداء محتمل يهدد أمنها (الاعتداء على أى دولة فى الحلف هو اعتداء على باقى الأعضاء بموجب المادة الخامسة من معاهدة واشنطن) إلا أن الأمر امتد إلى حفظ الأمن والاستقرار العالمى، وهى المهمة التى أعطته حق التدخل العسكرى فى أى بقعة من العالم سواء بتفويض من الأمم المتحدة أو منفردا, مثلما حدث فى البوسنة والهرسك وكوسوفو وفى أفغانستان وليبيا وغيرها.

 

الواقع أن خطاب ترامب فى قمة الرياض جاء متناغما تماما مع هذا التصور, حيث ركز بشكل رئيسى على إيران بإعتبارها المهدد المباشر للأمن والاستقرار الدوليين والإقليميين ومنبع الإرهاب فى العالم منذ الثورة الخومينية, وبالتالى فهى الهدف المشترك الذى ينبغى أن تتوحد الجهود لمواجهته, لذلك -وعلى النقيض من سلفه أوباما- فقد أعلن تأييده للحرب التى تخوضها السعودية فى اليمن ضد الانقلاب الحوثى المدعوم من طهران، وفيما يتعلق بالحرب على الإرهاب ضد التنظيمات السنية المتطرفة (داعش والقاعدة وما يتفرع عنهما) طالب بصراحته المعهودة الدول الإسلامية بتحمل هذا «العبء» أى تكاليف تلك الحرب.

باختصار, إذا كانت فكرة «الناتو العربى» المدعوم أمريكيا مطروحة بهذه الجدية, فثمة ملاحظات أساسية تثيرها:

أولا, أن تركيز الإدارة الأمريكية بشكل شبه أحادى على إيران كداعم رئيسى فى تجنيد وتسليح وتدريب الإرهابيين دون تسمية دول أخرى تُسهم على الجانب المقابل فى القيام بنفس الدور أو توظيف الجماعات السنية المسلحة فى حروب بالوكالة, يحمل قدرا من الانتقائية, وهو ما عبر عنه الرئيس عبدالفتاح السيسى فى خطابه بنفس القمة حين أشار إلى (عدم إمكان اختصار المواجهة على مسرح عمليات واحد دون آخر) وأن هناك دولا بعينها توفر الغطاء السياسى لتلك الجماعات (كجماعة الإخوان التى لم يشر إليها الجانب الأمريكى من قريب أو بعيد) أو تشترى من بعضها الآخر البترول الذى تستولى عليه من مناطق تمركزها (مثل داعش).

ثانيا, إن نجاح أى حلف عسكرى يرتبط ارتباطا وثيقا بالوحدة السياسية والتوافق بين الأنظمة الحاكمة بحيث تتفق على تعريف موحد للأمن القومى ومصادر التهديد والتحديات التى تواجهه, أى لابد من رؤية مشتركة تسبقه, وهذه هى الخبرة الأولية لحلف الناتو, والتى لا تبدو متوافرة إلى الآن, وتكفى الإشارة إلى تصريحات أمير قطر التى دافع فيها عن إيران مناقضا ما جاء بقمة الرياض, قبل نفيه لها احتواءً للأزمة التى قد تنشب مع المملكة.

ثالثا, إذا كانت الولايات المتحدة هى القوة العظمى التى ستدعم مثل هذا الحلف فالمفترض أن تكون مواقفها وسياساتها متناغمة مع جميع أطرافه الإقليمية, وهو شرط مازال غير قائم, على سبيل المثال تعتبر مصر أن كلا من تركيا وقطر تنتهجان سياسات مناهضة لها ورغم ذلك أشاد بهما ترامب فى معرض خطابه حيث قال نصا (إن استضافة قطر للقاعدة المركزية الأمريكية يجعلها شريكا إستراتيجيا حاسما) مثلما أثنى على دور تركيا (لاستضافتها العدد الأكبر من اللاجئين السوريين).

رابعا, ما يتعلق بموقف روسيا, وهى القوة الدولية الفاعلة فى المنطقة, والتى سارعت بمهاجمة الفكرة برمتها, بل واعتبرتها مُفضية إلى مزيد من التوتر والحروب فى المنطقة خاصة مع استمرار تحالفها مع إيران, وليس خافيا أن الدول المفترض تأسيسها الحلف الجديد لا تقف على مسافة واحدة منها. بعبارة أخرى هناك الكثير من العمل قبل أن تتحول فكرة الناتو العربى إلى واقع فعلى.