إدوارد فيلبس جرجس يكتب: امرأة تحت سيف الأقدار (الجزء 21)

إدوارد فيلبس جرجس يكتب: امرأة تحت سيف الأقدار (الجزء 21)
إدوارد فيلبس جرجس يكتب: امرأة تحت سيف الأقدار (الجزء 21)

 

(21)

 

        اعتذر رمزي لرشاد عن حضور المقابلة التي ستجمع حامد النجار والشيخ نديم ، معللا ذلك بأنه قد يكون هناك ما يود حامد النجار الإفضاء به ، وابتسم رشاد قائلا:

_ وهل ستعتذر أيضا لو أراد أن يرى الأب يعقوب ؟

_ لا بالطبع ، فالحال يختلف فذهابه للأب يعقوب ، سيكون من باب المجاملة والتعرف عليه فقط ، لكن أعتقد أن ذهابه للشيخ نديم بالطبع سيكون من أجل التوبة .

قال رشاد متعجبا :

_ أنا معك في هذا الاعتقاد ، الرجل يبدو وكأن معجزة حدثت معه ، من يصدق أن من كان يتحدث معنا بهذا اللطف هو حامد النجار ، الذي طارت سمعته إلى الفضاء في الشر والرذيلة.

وقال رمزي :

_ ألم تقل منذ قليل بأن الله يهدي من يشاء .

_ صدقت ، الله يهدي من يشاء .

******

 شعور غريب أقتحم حامد النجار وهو يجلس أمام الشيخ نديم ، شعاع من الإيمان ينطلق من عيني الرجل ، يغمره من قمة رأسه لأخمص قدميه ، لأول مرة يملؤه هدوء النفس ، وهو يستمع لكلمات هذا الرجل البسيط في مظهره العميق في روحانياته . أصر رشاد أيضا بعد أن تم التعارف بين حامد النجار والشيخ نديم أن يتركه منفردا معه مفضلا الانتظار بعيداً ، ليتيح لحامد النجار الفرصة لسكب داخله أمام الشيخ دون حرج . تحدث حامد النجار كثيرا والشيخ نديم يستمع إليه وعلى وجهه ابتسامة مشجعة ، كان لها دورها في استنزاف كل خبيئته ووضعها بين يدي الشيخ ،  نظر الشيخ  إليه والابتسامة الهادئة لم تفارق شفتيه ، امتدت يده تربت على يد النجار كأب يربت على يد ابنه ليبث في روحه الطمأنينة قائلا :

_ أود أن أسألك سؤالاً واحداً وأرجو أن أتلقى إجابة لا تقل عن صراحتك فيما تحدثت به الآن.

أجاب حامد النجار وقد انطفأ وهج الشر من داخل عينيه :

_ تفضل يا مولانا وسل ما شئت

_ هل تنوي أن تعود إلى سيرتك الأولى؟ .

_ ما كنت كلفت نفسي مشقة الحضور إليك وأضعت وقتي ووقتك .

قال الشيخ نديم وهو يحدق في عينيه :

_ الشيطان ماكر وحيله لا تنتهي ، قوته تكمن في تمكنه من النفاذ إلى نقاط ضعفاتنا .

قال النجار بإيمان :

 _ ما أراه الآن في عينيك سأستمد منه قوة تقيني من السقوط ثانية .

قال الشيخ نديم وفي عينيه استفهام :

_ لكن أنت صاحب سطوة ولا زلت تملك الوجاهة ، ومن واقع خبرتي ، اعلم أنه من النادر من كان في مثل حالتك أن يقلب طريقه فجأة .

_ الجملة الوحيدة التي أتذكرها من الدين تقول بأن الله يهدي من يشاء .

_ صدقت يا أخي ، الله يهدي من يشاء .. ثم أردف مبتسما ، لكن شيئا في داخلي يهتف بأن هناك دافعا هو الذي دفعك للانقلاب من سيرتك الأولى ، لتتشبث بطريق يلزم له الجهاد.

أجاب النجار مترددا :

_ نعم  ، لكن أخشى أن أبوح به فتسئ الظن بنواياي.

_ لم أسيء الظن بك بالرغم بكل ما اعترفت به ، فهل تظن أنني سأسيء الظن بك لمجرد معلومة أخرى .

أزال حامد النجار خطوط التردد عن وجهه وقال وهو ينظر للأرض:

_ أرجو ألا تظن بي المراهقة فيما سأقوله ، لكنها الحقيقة التي جعلتني أقف وقفة مع نفسي ، كان من المستحيل أن أتخيل بأنني سأقفها يوما ، وأنا لا زلت معتليا لعرش السطوة والسلطة والنفوذ. نظرة من فتاة نفذت كسهم داخل قلبي وعقلي ، شعرت لها بألم لا يطاق ، فجأة تحول الألم إلى نوع من الحياء أمام نفسي . نظرة احتقار من عيني زهرة بيضاء نشأت في وسط وحل أسود ، وبالرغم من هذا استطاعت أن تحافظ على نصاعة أوراقها وأريجها الطيب  .

قاطعه الشيخ نديم ونظرة عتاب في عينيه قائلا :

_ هل أفهم أنك جئت تتمسك بأهداب الدين من أجل الوصول لهذه الزهرة التي استعصى عليك قطفها ؟

قال حامد النجار وطابع الصدق يدمغ كلماته :

_ ألم أقل يا مولانا بأنك ستسيء الظن بي ، لقد كنت بالفعل مصراً على  اعتصار رحيقها عنوة كما فعلت مع غيرها ، نظرتها لي دفعتني لكي أنظر إلى نفسي في مرآة الحقيقة ، قضيت طوال عمري أحدق في صورتي أمام مرآة الزيف ، وعندما اكتشفت حقيقتي قررت أن أنزع عن جسدي ثوب الرثاء . أما هذه الفتاة فليس لها في نفسي الآن سوى كل احترام ، ولا أتمنى لها سوى السعادة مع خطيبها .

تبدلت النظرة في عيني الشيخ نديم وعادت الابتسامة الهادئة ، امتدت يده تربت ثانية فوق يد النجار، قد تكون بمثابة اعتذار عن شكه وقال :

_ لقد أرحت نفسي ، والآن أستطيع أن أقول لك باطمئنان ، أن ما بك هو هداية من الله ، والله عز وجل يسبب الأسباب . سر في طريقك وكلما وجدت الوقت تعال واجلس بجانبي فلقد آنست إليك .

تهلل وجه النجار ، جرت في داخله ينابيع من السعادة ، نهض وهو يشد على يد الشيخ نديم قائلا :

_ أنا الذي سأدعو نفسي للحضور دائما لتزيد من إيماني .

 

********

      وعد أخته ناديه بأن يَفُك سليم خطيبها من ورطته خلال ساعتين على الأكثر ، عليه أن يفي بوعده . قرر أن يبدأ بسؤال الجوكر فقد يكون حامد النجار ضالعاً في هذا العمل ، أو بمعنى أصح أن الجوكر قد علم بقصة سليم وخطوبته غير المعلنة                                                           لناديه ، فرأي أن من واجب الولاء لسيده حامد النجار أن يزيحه                                               . لماذا لم يخبره الجوكر ؟ مصيبة أن يكون هناك شك في ولائه وينقل هذا الشك لحامد النجار ، إن كانت ناديه ركلت الجميع فليس هذا بذنبه . هي وأخوه رشاد من طينة غير طينتهم ، طينة ناديه ورشاد تختلف عن طينته وطينة الجوكر ووائل وحامد النجار ، لا يمكن أن تتشكل مع طينتهم وتصنع إناءً واحدا . لا يمكن أن تندمج طينة لبنة مع طينة انصهرت في النار ، فأصبحت كتلة يابسة مغلقة على فضائل يستحيل أن تتلائم معها الطينة اللبنة . يجب أن يفهم الجوكر هذا ، إنه يمكن أن يمهد الطريق ولكنه لا يضمن الوصول لنهايته ، هناك فرق أن يكون في نهاية الطريق تقف أخته ناديه ، أو تقف أمه فجر ، طينتان مختلفتان ، أمه فجر طينة لبنة ، لا تنتظر أحد لأن يفتتها ، هى التي تندفع لحضن الرجال وتتفتت عن طيب خاطر ، أخته ناديه طينة منصهرة في النار لو حاول أحد أن يفتتها تطير وتنقلب لطوبة صلبة تصيبه في مقتل . نظرة واحدة من عينيها أصابت حامد النجار في مقتل ، مقتل حامد النجار في كرامته المريضة ، يحاول إثباتها عن طريق اعتلاء النساء حتى ولو عنوة ، نظرة ناديه أوقفت نظراته السافلة وهي لم تصعد بعد إلى كعب حذائها . اقترب خالد من الجوكر شاحذا ذكائه لينتزع سر تلفيق التهمة لسليم ، امتلأ حيرة عندما سأل الجوكر سؤالا مباشراً فنظر إليه الجوكر باستنكار قائلا :

_ أي سليم هذا الذي تتحدث عنه  ؟

حاول خالد أن يتماسك ، قد يكون الجوكر لا يريد إفشاء أي خبر عن هذا الموضوع لسبب في رأسه وقال :

_ لقد علمت أنه ألقىَّ القبض على شخص يدعى سليم صاحب محل شرائط فيديو ، يقال أنه في حكم الخطيب لناديه أختي ، توقعت أن يكون تم هذا بمعرفتك فأدهشني هذا لأنك لم تخبرني ، أنت تعلم جيدا أنني رهن إشارة حامد بك وإشارتك .

_ أنني أعلم ولائك ، لكن موضوع سليم هذا لا علم لي به بالفعل ، لم أكلف أحدا به ، حامد النجار على ما أعتقد صرف النظر تماما عن أختك ناديه ، لست أعلم أسبابه وهذا ما يجعلني مندهشا ، هذه المرة الأولى التي يقبل فيها الهزيمة ببساطة تامة ، ما زادني دهشة أنني لمحت أمامه بهذا مرة فنظر نحوي نظرة من نظراته التي تصهر الحديد وقال :

_ أتركها في حالها ، نوع آخر من النساء ، يبدو أنني كنت جاهلاً به تماما ، منذ ذلك اليوم لم يأت ذكرها أبدا .

قال خالد :

_ لقد أثار حديثك دهشة في نفسي أكثر من دهشتك ، وأتساءل عن الذي له مصلحة في تلفيق هذه التهمة لسليم ؟

_ وما الذي يدريك أنها تهمة ملفقة ، ولماذا لا تكون تهمة مضبوطة ، وأن هذا السليم يروج أفلاما مخلة بالآداب .

أجاب خالد :

_ لا أظن هذا ، أختي ناديه تؤكد براءته ، أنا أعلم أنها ما كانت تدعه يقترب من سورها لولا تأكدها من نظافة سلوكه .

قال الجوكر وقد تجلت ابتسامته الوضيعة :

_ لو أن الأمر يهمك وتريد أن تدعه يخرج لحال سبيله ، من أجلك ومن أجل ناديه ، لا مانع من التدخل للإفراج عنه ، أنت حقيقة خير من تقدر خدماتي ، علاوة على أن هذا السليم لو كان بريئا سيكون إطلاق سراحه هدية مني للفنانة ناديه ، أما إذا كان فعلا من هواة اللعب في هذا الميدان ، فلتتركه لنا وسنفتح أمامه السوق على مصراعيه للعب .

تمتم خالد في داخله .. لا تفلت فرصة للوضاعة أبدا أيها الجوكر ، وضع فوق شفتيه ابتسامة زيفاء ، قال وكلماته تضخ احترام مفتعل :

_ سيادتك لا تدع فرصة إلا وتشملني بعطفك ، خروج سليم يعتبر قفزة لي أمام عيني أختي ناديه ، انحدرت ثقتها بي للحضيض .

من خلال الهاتف ، وفي لحظات أنهى الجوكر كل شيء ، أخبر خالد أن سليم خلال ساعة سيكون حراً في الطريق إلى منزله . بالرغم من ازدياد الشك داخله ، أن تكون هذه من فعلة الجوكر ولا علم لحامد النجار بها ، إلا أنه أظهر امتنانه المحشو بوعود خفية بأنه لن ينسى له هذا الجميل ، الذي سيبيض وجهه أمام أخته . 

 

********

       تكررت زيارات حامد النجار للشيخ نديم ، عرف الطريق ولم يعد في حاجة لمرافق ، يذهب متخفيا ، لم يعلم أحد من مكتبه حتى الجوكر نفسه بأمر هذه الزيارات ، يخشى انكشاف سر هذه الزيارات لسببين . أولهما أنه كان يعرف أن من حوله وحوش كاسرة وطبيعة عمله لا تسير إلا بالحديد والنار ، البطش هو العصا السحرية التي تسير عمله على أكمل وجه . أما ثانيهما وهو الأهم أنه يعلم تماما بأن أحدا لا يصدق بتاتا أن ينقلب طريقه نحو الدين ، سيشيعون عنه بأنه فقد عقله ، وأن الجنون هو الذي يحركه . ستكون فرصة لأن تبرز مخالب أعدائه وما أكثرهم لخمش وجهه وإقصائه عن منصبه ، حتى العاملين معه سيتحول ولائهم لجهنم  قادرة على شي من يقترب منها ، القوة هي الوسيلة التي لا يعرف سواها هؤلاء المنافقون ، وهو باقترابه من الله من المؤكد أنه سيبيع بطشه وبالتالي سيختل ميزان القوى وتصبح كفته هي الخاسرة . أكثر من مرة يجاهر بما في نفسه للشيخ نديم ، نصحه بأن يستخدم ميزان الحكمة في تسيير أموره ، كان من رأي الشيخ نديم أيضا أن الانقلاب المفاجئ قد يضر به ، لكن في نفس الوقت لا بد أن يعدل من سلوكه ولا يستمر في طريق الظلم والقمع ، يعدل من خطواته بالتدريج حتى ينقل ميزان قوته من يد الشيطان إلى إرادة المولي عز وجل .  كاد الجنون يسكن عقل الجوكر وهو يرى سيده وولي نعمته زاهداً في الفجور ، إذا زهد سيده في الفجور فماذا سيكون عمله هو ، لا يجيد سوى تجهيز الفراش ومستلزمات السهرات الحمراء ، حتى سيدة الفراش من اختصاصاته ، هو الذي يبحث وينتقي ويقرب ويستخدم القوة والعنف والمؤامرات إذا اقتضى الأمر ، المهم في النهاية أن تصبح من يشير عليها حامد النجار ضيفة على فراشه ، لليلة واحدة أو قد تطول لعدة أسابيع . ناديه هي الوحيدة التي قفزت فوق القاعدة . منذ ذلك اليوم وهو يرى سلوكا جديدا لسيده ، أصبح دمه أثقل من الحجارة ، العفة لا تليق بمن كان على شاكلة حامد النجار ، الكأس والنساء هما سبب ظرفه ، أصبح لا يطاق بعبوسته الدائمة . حتى لسانه أصبح ثقيل الظل ، خسر كثيرا من العبارات والألفاظ القبيحة التي كانت تشنف أسماعه ، أو يستمع إليها من خلال حديثه مع الساقطات . تساءل الجوكر عن سبب هذه النكبة وحاول أن ينفذ إلى سيده ، دائما يجابهه الصد ،حاول أن يحرك أعوانه لاستجلاب معلومات عن التحركات الخفية لسيده ، أبدا لم يصل لسر الشيخ نديم وطريق حامد النجار الجديد .

 

 

 

إدوارد فيلبس جرجس

edwardgirges@yahoo.com

**********************