قيل فى الأمر إنه قد تأتى متأخرًا دائمًا خير من ألا تأتى على الإطلاق؛ وحينما عقد مؤتمر الشركة المتحدة للإعلام وجرى منه إشهار منعطف جديد فى المسيرة الإعلامية فإن الشعور السائد بين العاملين فى المجال تراوح بين قدر كبير من البشارة والبهجة، وهؤلاء الداعين للستر والسائلين الله عز وجل ألا يرد القضاء وإنما اللطف فيه. بالنسبة لى فقد كنت من المنتمين للمعسكر الأول الذين شاهدوا أولًا الإعلان عن الخطوة بقدر معقول من التفاصيل المبشرة، وبقدر كبير من المعلومات والشفافية والحوكمة المرتبطة بالطرح فى البورصة، والطاقات الجديدة المرتبطة بجيل جديد خاض تجارب سابقة بعضها رائد فى مجاله. وثانيًا أن التجربة جاءت بعد موسم من النجاح الدرامى الذى كثيرًا ما تسرب الحديث عنه إلى ما هو أشمل مما بات معروفًا باسم «القوة الناعمة» المصرية. المسألة فيها بعض من الثقة بالنفس جاءت فى لحظة سياسية اختلط فيها ما يجرى فى الداخل من منجزات، وما يحدث فى الخارج مما تواترت تسمياته عن «الدور الإقليمى» لمصر، والذى تبدى أثناء حرب غزة الأخيرة. المسألة هكذا فى توقيتها متشابكة مع قضايا أخرى كلها تفتقد كثيرًا الإعلام النشط والذكى والذى لا ينتهى بكونه إعلامًا وإنما يظل فى كل الأحوال «سياسة» تتفاعل فيها القضايا وتحط فى النهاية على المكانة المصرية ودورها فى ترسيخ مصالح عليا وحيوية. ورغم أن هذا إدراك ذائع إلا أن وسائل الوصول إليه اختلفت ما بين الذين توصلوا للحل المشار إليه أعلاه، وحل آخر ذكره الزميل والصديق «عمرو الشوبكى» وهو أنه طالما أننا بسبل التجريب فى إقامة قناة إخبارية مصرية عربية إقليمية، فلماذا لا نبدأ ببث الحياة فى قناة النيل للأخبار، حيث توجد قاعدة يمكن البناء عليها، وما لم يرد فقد كان، وإذا صار فى الأمر خسارة فى النهاية فإنها ستكون معقولة أو محتملة.
هناك مدرسة أخرى فى التفكير المصرى إعلاميًّا أو فى أى أمر آخر وهى أنه أفضل وأقل تكلفة دائمًا أن تبدأ أمرًا جديدًا عن البناء على القديم. أسباب ذلك كثيرة ولا داعى لاستدعاء التاريخ السابق، ولا ساحة المنافسة المقبلة. ولكن ربما غاب عن ساحة الكلام هو ما ذلك المحتوى الذى نحتاجه، ويكون مفيدًا فى عملية التنمية أو الدور الإقليمى سواء كان فى الجوار القريب كما أحب، أو ما هو أبعد كما يتطلع آخرون. فالإعلام أوله معرفة، وآخره تأثير على بناء الأولويات ومناطق التركيز ومتى يكون الوضوح ملحًّا والخفوت واجبًا. وفى ذلك أصول المهنة، ولكن جانبها الآخر كما هو الحال فى كل الأمور الأخرى أن غايتها مصر والتى لا بد أن نعرف ما يميزها عن الآخرين. الوجه الأول واضح فى تركيبتها «الجيو سياسية» الفريدة التى تعلمنا عبقريتها حتى الثمالة من «جمال حمدان»؛ ولكن الثانى حيث يأتى المصريون فإنه رحمه الله لم يعرف أنهم سوف يصلون إلى أكثر من مائة مليون نسمة ويصيرون بذلك أهم سوق بشرية فى المنطقة، وحينما مستهم التنمية فإنهم انطلقوا بالدولة النهرية إلى آفاق البحار الواسعة.
المحتوى المصرى ينطلق من هذه القاعدة المتميزة التى لا يوجد مثلها فى المنطقة كلها ما بين أقاليم (الدلتا والصعيد وسيناء والوادى الجديد وسواحل المتوسط والبحر الأحمر) متنوعة، ورغم ذلك فإن وحدتها ومصريتها متماسكة كما لا تعرف أية دولة أخرى. شعب مصر يعرف أيضًا التركيبة الاجتماعية للمجتمعات الناضجة، وهى ليست مقسمة فقط لطبقات وشرائح، وإنما عرفت أيضًا عيش الفلاحين فى الريف، والعمال فى مصانع الحضر، وما بين هذا وذاك توجد مهن وحرف. السبق فى عملية التحديث خلق تقاليد لمهن، ونقابات وأحزاب وجمعيات أهلية، ومركب هائل من المؤسسات لعل آخرها النفاذية الهائلة بالكلمة والصورة فى منصات التواصل الاجتماعى العربية. كل ذلك قصص وتحقيقات، واستكشاف وشغف، ودراما وتراجيديات وروايات كوميدية ونكت وخفة دم فاقعة، وأجيال متواصلة يمكنها أن تحكى عن «الصنايعية» كما تحكى عما جرى لهؤلاء الذين أتوا مع عمرو بن العاص فى مصر، أو من سبقهم من ملوك باقية معنا فى ذكريات ومومياوات. التفاصيل كثيرة وربما نعود إليها فى مقام آخر، ولكن الكلمة هنا هى أن الفارق سوف يكون دائمًا فى المحتوى العميق والحكيم والمعتدل والمتسامح، والجذاب والمثير فى نفس الوقت. ما يشكل الفارق بين إعلام وإعلام آخر هو الصدق والمصداقية فى الأصول، والإثارة والشغف والكشف والاكتشاف والألوان فى الفروع والأوراق، ويمكن لمصر أن يكون لديها من كل ذلك كثير.