فى اليوم الثامن من مايو الجارى، جرى هجوم «سبرانى» على خط أنابيب الوقود الذى يربط ولايات «نورث كارولينا» و«فرجينيا» و«فلوريدا» ويقدم 45% من النفط اللازم للاستهلاك فى الساحل الشرقى للولايات المتحدة الأمريكية. لم يكن ذلك هو الهجوم الأول على البنية التحتية فى أشكالها المختلفة، وأجمعت كافة المصادر التى غطت الحادث على وجود ارتفاع فى مرات الاختراق، التى حاولت التأثير فى الخدمات، والتى تؤدى بالضرورة إلى ارتفاع الأسعار وإرهاق المستهلكين فى بحثهم عن بدائل للمصادر المقطوعة التى توقفت عن العمل.
وحتى وقت كتابة المقال لم يكن أحد يعرف ما إذا كان هذا الهجوم قد أتى من مصادر خارجية فى الصين أو روسيا أو جماعات إرهابية؛ أو أنه جاء من إرهاب داخلى لجماعات تريد «فدية» مقابل تقديم المعلومات اللازمة للتخلص من الاختراق وعودة الأمور إلى حالتها الطبيعية. النتيجة كانت أن الشركة التى تقوم على خط الأنابيب بدأت فى عملية واسعة لبناء المزيد من الخطوط الدفاعية أمام هجمات جديدة منتظرة، وفى الكونجرس فُتح ملف كيفية حماية البنية الأساسية الأمريكية الجديدة، التى ينوى إقامتها الرئيس جو بايدن.
ولم يصدر صوت واحد ينادى بالتراجع عن استخدام الأدوات الرقمية لتقديم خدمات سريعة، وفائقة السرعة، للمواطنين والصناعة والخدمات المختلفة. الجميع هناك يعرفون أن تحولًا نوعيًا قد جرى فى البنية الإنتاجية والخدمية، بما فيها التعليمية الأمريكية، التى لا يمكن التراجع عنها، وإنما حمايتها والتعامل مع مشاكلها وما تثيره من تهديدات.
الجميع كان يعلم أن البشرية عندما وجدت أن استخدام السيارات سوف يؤدى إلى الكثير من الحوادث والوفيات لم تتراجع إلى عصر الحصان والجمل والدواب فى مجموعها، وإنما ببساطة عملت على إنتاج سيارات أشد أمانًا، وأقل استهلاكًا للطاقة، ونظيفة، وصديقة للبيئة.
..اليقين فى الولايات المتحدة وكافة الدول المتقدمة هو أن الثورة الرقمية قد خلقت عالمًا جديدًا يختلف هيكليًا ونوعيًا فى علاقته بالزمان والمكان عن كل العوالم التى عرفناها من قبل، والتى من بُعد المسافة لم يعد ممكنًا ولا مستحبًا الرجوع إليها للتخلص من معضلات حاضرة.
فى مصر اعترضت لجنة التعليم فى مجلس الشيوخ على تعديل المادة 28 من القانون رقم 139 لعام 1981، استنادًا إلى حدوث «بعض المشكلات» عند استخدام «التابليت» فى الامتحانات السابقة على الثانوية العامة، ولذا وجب عدم استخدامها فى الامتحان الكبير. من حيث المبدأ، قال ممثلو الشعب الموقرون فى مجلسى النواب والشيوخ كلمتهم، وبالأغلبية الساحقة، برفض التعديل المذكور، وبالتالى استمرار الأمور على ما كانت عليه من قبل بالقانون الذى جعل أوضاع التعليم فى مصر على ما هى عليه الآن، بما فيها الحالة الخاصة بامتحانات الثانوية العامة، التى وصفها التقرير بأنها تمثل «عنق الزجاجة فى الحياة العلمية لكل طالب، بل لكل أسرة مصرية».
أصبحت الصيحة الذائعة فى التعليقات التى جرت على ما جرى هى «التطوير قبل التقييم» وهى معادلة فلسفية فى الأصل ذات طبيعة «دائرية» تستحيل فيها معرفة أيهما يأتى قبل الآخر: البيضة أم الدجاجة. وبغض النظر عن نتيجة التصويت، التى عكست واقعًا ديمقراطيًا لا يمكن تجاهله، فإن وضع القضية كلها فى إطار المراد، وهو تحديث مصر وانطلاقتها نحو تغيير «هيكلى» و«جمهورية جديدة»، سوف يؤدى إلى حالة من الأسف على فرصة لتطوير التعليم فى اتجاه ما يحدث فى الدول المتقدمة من ناحية، وإدماج التعليم فى الإطار العام للنهضة المصرية الجارية من ناحية أخرى، والتى تقوم على الرقمنة وأدواتها، من أول «التابليت» حتى أضخم أشكال الكمبيوتر، التى تحسب لمحطات الطاقة وحركة السفن فى قناة السويس وأسلحة القوات المسلحة المصرية والصناعات الثقيلة والخفيفة المصرية والزراعات الحديثة فى مصر كلها، حيث يجرى التحكم الرقمى فى درجات الحرارة والرطوبة والتغذية بالمياه والسماد حتى يتحدد حجم ووزن ولون وطعم الثمرة.
ولكن «الرقمنة» ليست فقط أدوات تحدد وتقنن، ولكنها أيضًا طريقة فى التفكير، الذى يربط بين الكثير من المتغيرات المعقدة التى تجرى على كل موضوع، والتى يتقدمها الصدق فى التشخيص وليس المزايدة فيه، فالحقيقة التى لا يمكن تجاهلها فى الواقع أن التعليم فى مصر على طريقة القانون الذى لم يُعدل ليس مجانيًا، فالدروس الخصوصية والسناتر والتعليم الموازى فى العموم وكتب الملخصات لها تكلفة مالية عالية على الأسرة وثمن فادح على وظيفة المدرسة.
والحقيقة الثانية أنه تعليم يبحث عن الشهادة وليس توسيع المعارف والمدركات، ولأن ذلك غالب على التعليم العام، فإن خريجيه تقل فرصهم فى سوق العمل متزايد الاعتماد على «الرقمنة» والتفكير الرقمى. والحقيقة الثالثة أن غالبية مَن يسدون حاجات الأعمال فى مصر، خاصة عالية المرتب والمكانة، هم من خريجى المدارس الأجنبية والدولية، التى لا تعتمد الوسائل المستخدمة فى التدريس ولا فى الامتحانات المعتمدة فى المدارس المصرية.
والحقيقة الرابعة أن العملية التعليمية فى العالم كله ليست فقط محصلة المدرسة والمدرس والمنهج، وإنما ما تقرره الأسرة والمجتمع والدولة من خيارات حول الإنسان وقدرته على طرح أسئلة، والبحث فى الإجابة عنها عما هو مبدع ومبتكر، وكل ذلك كان جوهر التعديل على المادة 28، والذى جرى رفضه، والذى شمل الامتحانات وطريقة تقييمها والأخذ بيد الطالب من حالة الحفظ والتلقين إلى حالة التفكير والتدبير.
الحكم على ما جرى لمحاولة تعديل مادة واحدة من قانون التعليم سوف يكون متروكًا للتاريخ، ولكن المنعطف الحالى للتقدم المصرى يقوم على إجراء تغييرات هيكلية متزامنة ومتفاعلة مع بعضها البعض، بحيث تفرز نتائج ذات سمات نوعية، وفيها معدلات للانتشار من قطاع إلى آخر. التطورات العمرانية والإنتاجية تفسح مجالًا واسعًا ليس فقط لزيادة معدلات النمو فى الناتج المحلى الإجمالى، وإنما لإنتاج مصرى مختلف، هو الذى يقدم التضحية ضد الإرهاب ويكسب معركته معه بالعلم والفكر والمبادرة والشجاعة، وهو الذى فى نفس الوقت يحرث أراضى الوادى الجديد، ويحفر الأنفاق أسفل قناة السويس، وينتج مسلسلات فيها الكثير من الوطنية والإبداع، وفى لحظات مثل تلك التى جاءت فى مسيرة المومياوات الذهبية، جرى التماسّ مع الكمال. باختصار، فإن الفكر المصرى غادر كثيرًا الكَمّ، الذى كان مسيطرًا على الحياة المصرية، وأصبح النوع والكيف هما القاعدة الإرشادية لكل ما هو جديد وجميل.
وإذا كانت مصر محظوظة، فإنها لن تنتظر طويلًا قيام مؤسساتها بالوظائف المؤهلة لها، التى فى مجموعها تجعل عمليات التنمية المتفرقة مستدامة، وقادرة على المنافسة. الأوطان مثل الجسد الإنسانى، الذى لكل عضو فيه وظيفة، وفى تكاملها تدب فيه الروح والحياة. ولعل السؤال الذى لم يُسأل فى موعده عن التعليم فى مصر كان: هل يقوم نظام التعليم الحالى بدوره فى منظومة التقدم المصرى، الذى يضع الدولة كلها فى مسار الدول المتقدمة؟!. حديث الوظائف سوف يقودنا بعيدًا عن التعليم إلى ساحات أوسع وأرحب، فانتظرونا!.