غنم عم جودة.. قصة قصيرة لسيد شعبان جادو

غنم عم جودة.. قصة قصيرة لسيد شعبان جادو
غنم عم جودة.. قصة قصيرة لسيد شعبان جادو

 

 يجر الليل ذيله في بطء لا يحسد عليه،تمضي الحياة في هذا الممر  تحت وقع رتابة لا يملها العابرون ولا تشبع منها بطون المعدمين،فتح حظيرة أغنامه التي ضربها الهزال طوال الشتاء، صارت مثل أعواد القش، بطونها ضامرة،تطاير صوفها،سرح الجرب في فرائها المتناثر،حتى إذا أخرجها لم يكد يراها، يحصيها كل ليلة عدا،لا يروق له منام حتى يتحسسها في ظلمة الليل،سبع نعجات وخمس عنزات وكبش وتيس،تلك هي خزانة ماله،عم جودة ذلك الراعي الطيب،هكذا كنا نسميه،ننتظر خروجه بأغنامه،ننصب له مكيدة كل صباح،الصغار مولعون بالنزق،نستدرج الشياه بأعواد من البرسيم نسرقه من أرض الوسية؛لا صاحب لها فيزود عنها انتهبها ذو حيل،تجري خلفنا ونظل هكذا نلهو وهو يعدو في فزع وراء كل شاردة،يتعب  فيتأوه، هي تبحث عن طعامها،يرغي فمه بماء،تلاطم طاقية رأسه ريح هوجاء،يشيح بعصاه،نقع على ظهورنا ثم نجري خوفا،ينادي بلكنة تعرفها الشياه،تعود إليه وقد جرى ريقها ببعض وريقات خضراء؛ انتهشتها خلسة علالة جائع،وما ظنك برجل بلي ثوبه وتركه الفقر مكسيا بما جمع من ثياب تهبها سفينة قادمة من رشيد ترسو عند ضفة النهر؟

ذات عشية والصيف حار يلفح الوجوه بحمم كأن القيامة على موعد،عم جودة افتقد الربعية التى زهت بأنوثة مخاتلة.

 دفعتها بطنها ناحية جرن القمح- وما أكثر ما تودي الخدع بالواهمين في سكة الضياع-أكلت حتى ضربتها التخمة في مقتل،الخطو أثقلها،والصبا زهاها،كلب يربض عند منحنى التلة- التي لقبوها بعرقوب العرجا- تربص بها السوء، راودها عن فرائها،نفرت منه.

عدا خلفها رفسته في مقتل،دخل الليل وأطاح بضوء النهار،جلس عم جودة حيران أسفا،كم أنفق ساعة نهاره يمني نفسه بأن قطيعه سيربو على الخمسين!

تنتصب له الأحلام غذاء جائع،ويراها سترة عريان،أشعل لمبة اليد -التي صنعها من علبة صفيح وجدها ملقاة عند دوار العمدة- تحركت ذبالتها كل ناحية،ولأن الهلع تملكه حسرة أن يكون الذئب قد افترسها،هبت ريح عاصف،فأطاحت بها ظن شيطان البركة يحركها يمنة وبسرة،اشتعل حريق بجرن الوسية،ارتعد عم جودة،أصابه الخرس،هم ولم يفعل سوءا،أطلق ساقيه جريا لا تلويان علي شي، تبعته الربعية التى تشممت رائحته،أصدرت ثغاءها في وصلة لا تنقطع،الكلب هو الآخر صار ينبح تشفيا.

النسوة في بلاهة: أشعل عم جودة حريقا في جرن القمح!

انتابته حالة من الصراخ،غامت الرؤية في عينيه،تجمعت الدواهي مثل قطار الصعيد غص بكل المتسكعين هربا من الفقر.

طالت النيران دور القرية،حتى شياهه العجفاوات صارت شواء،أخذ يهذي ويلف في المكان،من بعيد وقف الكلب ينبح،عند تلة عرقوب العرجا أشعلوا في بقاياه النار، كلما لفحته يبكي ويتألم،الحقول من بعيد صارت مقلب نفاية لا تنتهي،الأشجار التي رأها يوما مثل أركان السماء هوت ،الترعة الكبيرة خرجت منها رؤوس شياطين مردة،بدأت أحشاؤه تتساقط أمام عينيه،طفل غر رماه بحجر أفقده نور عينه اليمنى،غدا في لحظاته الأخيرة شبيها بمسيح وقد وشى به اللئام،تأوه في مرارة القهر،من بعيد كانت زاهية تحمل بين يديها حملا وديعا،وجرة ماء تسيل،غامت الرؤى واندثر الحلم.