إدوارد فيلبس جرجس يكتب: امرأة تحت سيف الأقدار (الجزء 16)

إدوارد فيلبس جرجس يكتب: امرأة تحت سيف الأقدار (الجزء 16)
إدوارد فيلبس جرجس يكتب: امرأة تحت سيف الأقدار (الجزء 16)

القط والفأر ، حامد النجار والجوكر ، نظرات باردة كالموت في عين الأول ، ومسحة من المسكنة والتذلل فوق وجه الثاني ، وطلب عفو لا يزال مرفوعاً ، بسبب الإهانة التي لحقت بسيده من ناديه في الحفل الذي أقامه خالد أخوها. في لحظة تحولت النظرة الباردة في عين حامد النجار إلى نظرة جمرية اكتوى بها الجوكر ، يعرف تماما ما تخلفه من حروق تلظى بها جسده من قبل ، سارع لإخمادها بشبح ابتسامة راجفة فوق شفتيه قائلا :

_ كل المعلومات التي طلبتها عن ناديه سعادتك جاهزة ورهن إشارتك .

_ إحذر الخطأ فلقد صبرت عليك كثيرا ، ليس هناك مزيدا من الصبر ،  الموضوع أخذ صورة تفوق حجمه ، عندما تنال هذه الناديه شرف الرقاد فوق فراشي ستتوسل في طلب المزيد ، ووقتها سأركلها بقدمي خارج النافذة وليس الباب .

_ نعم يا باشا ، من هي التي تستعصي على سيد الرجال ، الذي رقدت أمامه شتى أنواع النساء ، واعترفت برجولته عاهرات شارع بيجال بباريس ، لكن ما يحيرني يا باشا ، هل تريد أن تبدأ بناديه أم أمها. 

_ ألم أقل لك يا غبي ، أنك غير مستحق حتى لوصفك بالغباء ، ألم تدرك بعد أن مخالبي متجهة بكل قوة نحو ناديه ، أمها نوع من النساء مستعد دائما ، قدم فوق الفراش وقدم على الأرض تنتظر دائما الإشارة لتلحق بأختها فوق الفراش ، لكن هذه المتمردة لن أنسى نظرة عينيها ،  أحسست بعدها بأن رجولتي لم يعد لها مكان سوى سلة القمامة ، هذه الإهانة سأجعلها تستحم بها من قمة رأسها لأخمص قدميها .

 نبح الجوكر ككلب يسترضي سيده :

_ معلوم يا باشا ، ستستحم بها وتغرق فيها للأبد ، أحضرت لسعادتك معلومات عن كل من يحيط بناديه ، لم نتهاون في جمع أي معلومة عنها ، سأخبر سعادتك بها ثم ننتظر ما تشير به للتنفيذ الفوري .

_ قل وأوجز فلدىَّ اجتماع بعد ساعة واحدة .

قال الجوكر كأحسن ما يكون القواد:

_ أنسيت يا سيدي أنك على ميعاد بعد ساعة مع الراقصة الأجنبية التي فتنتك ، وتنتظرك بشقة المعادي ، أصدرت تعليماتي باستقبالها هناك .

قال بغطرسة منصبه الذي هبط عليه من حضن الظلام :

_ دعها تنتظر بعض الوقت ، فهي تنتظر حامد النجار وليس رجلا آخر.

قال فنان القوادة :

_ هناك مثل يقول يا باشا .. لا تدع النساء ينتظرن طويلاً ، وهي سترحل غدا مع فرقتها ، والاجتماع يمكن تأجيله ، لكن ساعة الحظ لا يمكن أن تعود ثانية ..

_ صدقت ياجوكر ، أشعر أحيانا أن ومضات من الذكاء غريبة عنك ، تجتاح عقلك لبضع ثوان ثم تنطفئ ، فلنؤجل الاجتماع ، أسلت لعابي لهذه الأجنبية ، هات ما عندك بالنسبة لناديه.

_ بالنسبة لناديه يا باشا وقتها كله تقضيه في العمل ، ليس لها صداقات مع زملائها الفنانين ، نادرا ما تلبي الدعوة لأي سهرة ، علاقتها مع أسرتها شبه باهتة ، تستنكر سلوك الأب والأم منذ فترة طويلة ، وعلى ما أعتقد أن طينتها تختلف عن طينتهم تماما ، أما علاقتها بأخيها خالد رسمية جدا ، عالمة بطبعه الأناني الذي يستبيح أي موبقة للوصول إلى أغراضه.

قاطعه حامد النجار قائلا :

_ إلى هنا وليس هناك مشكلة فالأب معروف عنه هوايته للقوادة ، ومن كان قوادا على زوجته فلن يمتنع عن القوادة على ابنته ، أما الأم فهي فاجرة يستحي الُفجر نفسه من أفعالها ، وخالد كلب ينتظر أي عظمة حتى لو كانت هذه العظمة ثمنها شرف أخته وأمه معا .. انتقل الآن إلى الباقين الذين أرى مشاكلهم تستبق الظهور داخل عينيك قبل أن يلفظها لسانك ..

قال الجوكر :

_ صدقت ياباشا ، وأول هذه المشاكل شخصية محترمة جدا للفنانة ناديه ، لا يعلق بحذائها أي شائبة من التي نسمع عنها تتردد في الأوساط الفنية ، المنزل هوايتها في الأوقات الخالية من العمل ، هروبها من قصر أبيها لم يكن سوى رفض تام لسلوكيات الأب والأم التي انغمسا فيها طوال حياتهما ويرفضان تغييرها نحو النهج الصحيح ، تركتهما نادية وسكنت بمفردها مع ثان المشاكل التي نحتاج لحلها لكي يتمهد الطريق أمام سعادتك .

قال حامد مغتاظا :

_ لا تتكلم بالألغاز يا رجل ، ووضح ما تقصده بثان المشاكل ..

قال الجوكر مثيرا فضول حامد :

_ أنها مشكلة بالفعل يا باشا .. يقيم معها في نفس شقتها ، رشاد ، الأخ الأصغر لها ، شاب أطلق لحيته ، ويمم وجهه نحو المسجد ، أصبح الدين هو وجباته الثلاث وهوايته ومزاجه الخاص . يلازم أخته ناديه دائما ويغار عليها غيرة عاشق ولهان ، لا يسمح لها بالخروج بمفردها أبدا ، يود أن يفرض عليها حصار راهبة ، يصادق زمرة من أمثاله وليس لديه مانع من استخدام العنف إذا لزم الأمر ، حتى سليم الذي يعتبر في حكم خطيبها يدقق في خروجاتها معه .

اعتدل حامد النجار في جلسته وقد ظهر اهتمام موشى بالغيرة على وجهه وقال :

_ تقول من .. ؟ سليم .. من هو هذا السليم .. وكيف علمت أنه في حكم خطيبها .. ولماذا لم يتزوجا حتى الآن لو كان ما تقوله مضبوطاً .

قال الجوكر قاصداً إيلامه :

_ مهلا يا سعادة الباشا ، فأنا لا أنقل لسعادتك سوى حقائق ، تعبت وتعب رجالي لوضع كل شاردة وواردة أمام سيادتك ، سليم هذا فتي وسيم جامعي له محل يبيع شرائط الفيديو في حي ناديه القديم ، ويقولون أنه على وشك بيعه ليعملا معاً في مجال الانتاج السينمائي ، طار بها وطارت به ، بينهما حب كحب الماضي البعيد الذي يموت فيه العاشقان معا وفوق شفتيهما ابتسامة الرضا.

قال حامد مهتاجا:

_ ومن أين لجماد مثلك بمعرفة حب الماضي البعيد ، وأنت لا تصلح إلا أن تكون جزارا في مسلخ .

قال الجوكر مكملا استفزازه :

_ يا باشا لا تلمني ، فأنا لا أريد سوى نقل الحقيقة إليك ، وهذا ما رأيته بعيني وما سمعته بأذني ، شاهدتها وهي تأكل وجهه ، ويلتهم  هوكل قسماتها في جلستهما الحالمة بأحد الأماكن الهادئة . استقصيت أخبارهما في كل مكان ، لم أسمع سوى إجابة واحدة وهى أن روميو وجولييت عادا للحياة .

قال حامد وبركان ينفث من منخاره :

_ أغرب عن وجهي الآن وألغي ميعاد الراقصة وميعاد الاجتماع أيضا .. دارت رأسه دورة لليمين ودورة لليسار وكأنه يطرد كابوسا وهو يتمتم في صمت.. مشكلتان لا مشكلة واحدة .. أخ ملتح وزمرة على غراره، وحبيب ولهان سيقف معريا صدره ليصد أي خطر يتهدد حبهما. لكن ما هذا الهياج الذي يتملك قلبك ؟! تكاد تسمع دقاته تمزق غشاء أذنك ، هل نسيت أنها امرأة لا تختلف عن باق النساء في رحلة الفراش الطويلة ؟! لا تغمض عينيك وتحلم ، أنت متأكد أنها ليست كباق النساء . هل هي نظرة المهانة التي تلقيتها من عينيها والرافضة لكل قاذوراتك ؟! هي سبب ما يعتريك الآن . هل بريق الماسة الساكنة في قلبها والتي استطاعت أن تحافظ عليها وسط الوحل الذي نشأت فيه؟! بين أب أصم أذنيه عن نداء الشرف ، وأم اجتاز بين فخذيها كل من يحمل جواز سفر من الأوراق المالية . هل بريق ماستها بدأ يطهر عينيك من البرص ؟! لا تصدق يا حامد يا نجار أن شيئاً حلو يمكن أن يدق باب قلبك ، أنها نزوة عابرة نتيجة للمنوع المرغوب ، تمنعت عليك ولم تتسطح الفراش دون أي مقاومة كالأخريات فأطلقت أوهام المشاعر داخلك ، امتطيها برضاها أو عنوة ، وبعد ذلك ستجدها لا تختلف عن الأخريات . المشاعر دُفنت تماما هذا إذا كانت ولدت معك مشاعر ، لا تخرج قلبك من زنزانته الحديدية فهذا هو بداية الانهيار ، حافظ على مجدك الذي أزحت كل من اعترض سبيله ، تقدم للأمام وأزل كل العوائق في طريقك لناديه . 

 

********

      كثيرا ما كان يقع تحت وطأة التفكير ، السر يحمله لوحده الآن ، ميرفت زوجته لم تشك أبدا في نشأتها وأنها ابنة ناجي عنايت ، إلى متى يتحمل حجب الحقيقة عن الإنسانة التي ملأت قلبه وفاض حبها ، من حقها أن تعرف أن لها أم قد تكون على قيد الحياة حتى الآن ومحتاجة لرعايتها ، وخالة لا يعلم لها مكان . اختفت الأم والخالة ولم يستطع ناجي عنايت معرفة مصيرهما ، حَملهُ المسئولية ورحل ، ستعلم زوجته يوما وقد تلومه وهو لا يتحمل ملامتها . الأفكار فاضت وانسكبت من رأس عادل ، تركت أثارها على وجهه وهو يجلس بحديقة منزله ، زوجته ميرفت تراقبه خلسة ، مخفية ابتسامة كالمد والجذر على وجهها كلما رأت انفعالات وجهه ، لم يشعر باقترابها من الخلف مريحة ذقنها فوق رأسه قائلة :

_ هل تستحق الأخرى كل هذا السيل من التفكير والانفعالات.

ارتبك عادل قليلا من المفاجأة لكنه عاد لهدوئه وأمسك بيدها يقبلها قائلا:

_ ملعونة هي الأفكار وصاحبها لو ابتعدت قيد خطوة عن حبيبة قلبي .

قالت ميرفت وإصبعها ينتقل فوق قسمات وجهه التي أحبتها بكل وجدانها:

_ إذاً فيما كنت تفكر وتركت الأفكار تتبعثر فوق وجهك ؟

قال عادل كاذبا ليتخلص من إجابة لم يحن وقتها :

_ كنت أفكر في أخي ونبضات من حنين واشتياق إليه .

جلست في دلال على ركبتيه وهي تقول :

_ الاشتياق لا يُسَكنهُ سوى الرؤية فلماذا لا تسافر إليه ؟

استحسن عادل الفكرة التي أتت دون توقع ، ربما إذا سافر إلى أمريكا يستطيع أن يحصل على معلومات ، تسهل له معرفة مكان أمها وخالتها ، نظر إلى وجهها بامتنان لهذه الفكرة الصائبة قائلاً:

_ موافق بشرط أن تكوني رفيقتي خلال هذه الرحلة ، قلبي يرفض أن يتركك ويسافر.

_ ولمن أترك عليا وعلاء والعام الدراسي لم ينته بعد ؟

قال عادل وهو يجذبها نحوه:

_ لكني محتاج لحنانك أكثر منهما .

قالت ميرفت بدلال وهي تطبع قبلة فوق شفتيه :

_ لم أكن أعلم أنك تحمل هذا القدر من الأنانية.. تريد أن تستحوذ على مشاعري كلها .. حتى مشاعر الأمومة لا تريد أن تبقي لطفليك شيئا منها .

ضحك عادل مضاعفاً قبلتها :

_ حقيقة أشعر بأنانيتي ، كلما رأيتك تحتوين أحدهما في حضنك الدافئ تمنيت أن أكون أنا ، ألتمس لنفسي الأعذار ، من ذاق الشهد يطلب المزيد دائما .

ابتعدت ميرفت عنه سريعا وهي تضحك قائلة :

_ أرى عوامل أخرى تتجمع داخل عينيك غير الأنانية ، فكفاك غزلا لترى ما ستصنعه في موضوع سفرك .

نهض يجري خلفها وهو يصيح ضاحكا :

_ دعيني أريكِ عمليا ما تقوله هذه العوامل التي تجمعت داخل عيني كما تقولين ، السفر لن يطير

 

*****************

إدوارد فيلبس جرجس

edwardgirges@yahoo.com

**********************