لست مؤرخاً للتاريخ إنما أسرد بعض الوقائع التي لم يذكرها المؤرخون والذين اكتفوا فقط بسرد الأحداث من الناحية السياسية وبعض من بطولات رجال البوليس في ذلك الوقت ولم يذكروا الأسرار التي دارت خلف أسوار وجدران قسم البستان وحدائق المانجو الخلفية الملحقة بها والتي بها خيام قوات بلوكات النظام لمحافظة الإسماعيلية ومبنى المستوصف الذي يبعد مائة متر عن مبنى المحافظة.
أن هذه السطور شهادة للتاريخ من شارك وشاهد تلك الأحداث والذى كان يحتفظ بالكثير من الأسرار عن هذا اليوم وما تحويه من أسرار ولم يكشف عنها بعد .. وأنا أروى وقائع على لسان والدي رحمه الله أحمد عبد الرحمن أبوشارب كان وقتها أحد رجل بوليس بقسم بستان الإسماعيلية وكان يبلغ من العمر 36 عاما وأصبح هذا اليوم من كل عام ذكرى عطرة في قلبه.
القصة الحقيقية كما رواها لي والدي عن بداية أول شرارة وبداية الأعمال الفدائية حينما أعلن مصطفى النحاس رئيس وزراء المملكة المصرية فى ذلك الوقت فور الاعلان بإلغاء معاهدة عام 1936 وبدأ أول احتكاك بين رجال المقاومة والبوليس فى منطقة التل الكبير بجوار الكبرى المواجهة لجامع الملك بالبر الثاني وثكنات بلوكات الأمن بقسم البستان المحافظة القديمة يوم 17 نوفمبر عام1951 وأطلقوا عليهم وابل من النيران وأصيب العديد منهم بإصابات بالغة فاضطروا بالرد عليهم بالمثل ببنادق التى يستعملها الآن رجال الخفر فى الأرياف من نوع ( لى أنفليد ) وكانت بها خزنة تسع خمس طلقات ولا تستطيع ضرب النار إلا بطلقات فردية أي طلقة طلقة بالإضافة إلى الفارق الكبير فى التسليح والتدريب على أساليب التكتيك والقتال واثبتوا بطولة وشجاعة وصمود ضد هذا الاعتداء تحت قيادة ضباطنا الشباب مما أجبر الإنجليز بتعزيز قواتهم العسكرية وأقاموا بتطويق الحي الإفرنجي بالكامل حتى منطقة الممر ومنطقة عرايشية مصر والمثلث وشارع الثلاثين حتى كوبري سالا وأحكمت قبضتهم على المدينة بالكامل وانتشار رجال المظلات الإنجليز الذين يطلقون عليهم ( الشياطين الحمر ) فى كل شوارع المدينة لبث الرعب بين المدنيين وفرض حذر التجول فى شوارع المدينة وفى شارع سيناء خلف نيابة بندر الإسماعيلية(الشهر العقاري)حاليا بينما أخذت القوات الانجليزية تجوب بالعربات المصفحة والدبابات الإنجليزية شوارع مدينة الإسماعيلية لمراقبة حذر التجول شاهدت قوات المظلات في شارع وادي حلفا الشاب فايز صادق البالغ من العمر 22 عاما نجل الأمباشى صادق الذي كان متواجد في الخدمة محاصر بقسم البستان وأطلق جنود المظلات الإنجليز النار عليه بلا رحمه وسقط شهيدا مدرجا فى دمائه لفرض حذر التجول فى الشوارع وأخذت تحلق الطائرات الحربية الإنجليزية على ارتفاعات منخفضة لإرهابهم وبسط نفوذها وسيطرتها الكاملة على المدينة أحس الإنجليز فى هذا اليوم التاريخي أن هناك شيئا غريب يسرى فى دماء الشعب المصري ورجاله من البوليس وبدأوا بترحيل عائلاتهم من مدينة الإسماعيلية خوفا عليهم من بطش الفدائيين وكان هناك تنظيم منسق بين ضباط البوليس وضباط الجيش الذين أمدوا رجال البوليس ورجال المقاومة بكميات هائلة من الأسلحة والذخائر والقنابل اليدوية ويرجع الفضل لأبطال الجيش المصري وعلى رأسهم المقدم طيار وجيه أباظة والنقيب كمال رفعت اللذان ساعدا على اشتعال المقاومة بشراسة ووضع الخطط لرجال الفدائيين الذين آتو من كل مكان من شباب مصر وتدريبهم على الأعمال الفدائية وتوجيه ضربات قاتلة فى معسكرات الإنجليز وتمضى الأيام سريعة وينطوى عام1951 وتشرق شمس عام 1952 ولا يعرفوا ماذا كان يعد لهم الإنجليز، وفى صباح يوم الجمعة الموافق 25 يناير الساعة السادسة صباحا عام 1952 كان نوبتجى فى ذلك اليوم ضابط عظيم بالنيابة عن مأمور القسم الملازم أول عبد الحميد سالم من بلدة سمنود غربية ومن معه في الخدمة في هذا اليوم شعروا بتحركات عسكرية غريبة وأرتال من الجنود الإنجليز بالآلاف مدججين بأحدث الأسلحة والدبابات والعربات المصفحة تطوق مبنى قسم البستان وعلى الفور قام جندي الإشارة بالاتصال بالضباط لإخطارهم بالأمر فى استراحة الضباط وبعضهم كان يقيم فى فندق بالاس بجوار محطة القطار وأخبرهم أحد المخبرين السريين وجنود الحراسة بالمنطقة الذين يقومون بحراستهم ليلا بتحركات وأصوات غير عادية فى شوارع المدينة وعلى الفور ارتدي الضباط الشبان ملابسهم العسكرية والتوجه فورا لمتابعة الموقف وتوزيع أنفسهم ليتولى قيادة الجنود النقيب مصطفى رفعت والنقيب عبد المسيح مرقص وتوزيع النقيب مصطفى عشوب والملازم أول فؤاد الدالي الى ثكنات الجنود بمبنى المستوصف مكتب الصحة حاليا واللواء محمد متولي والنقيب صلاح ذوالفقار والنقيب صلاح دسوقى الذين آتو من القاهرة لتنظيم المقاومة الشعبية وقد علموا من النقيب مصطفى رفعت الذى يعطي لهم التعليمات لحظة بلحظة بأن المقدم شريف العبد ضابط الاتصال تم استدعائه لمقابلة البريجادير أكسهام قائد القوات البريطانية بمبنى هيئة قناة السويس المجاور للمحافظة وسلمه إنذار بإخلاء مبنى المحافظة من الجنود والضباط والأسلحة وترحيلهم إلى محطة قطار الإسماعيلية وهناك قطار مجهز لهم وترحيلهم الى القاهرة وتم أخطار اللواء أحمد رائف قائد بلوكات الأمن وأخطر به وكيل المحافظة على بك حلمي ورفض على بك حلمي الإنذار وعلى الفور قام بالاتصال بوزير الداخلية فؤاد سراج الدين باشا الساعة السادسة صباحا و15 دقيقة كما هو مدون فى دفاتر الإشارة بالقسم وجاءت لهم إشارة بالدفاع والصمود بكل قوة حتى أخر طلقة وأرسلت إشارة من خلال ضابط الاتصال شريف العبد الى الإنجليز برد وزير الداخلية وانتهت مدة الإنذار وشهدت مدينة الإسماعيلية أعظم ملحمة تاريخية فى نضالها ضد الاحتلال الانجليزي التى شهدت أحداثا أقل ما توصف بأنها كانت ترقص على أنغام البارود من البركان الثائر من رجال البوليس والفدائيين لتحرير تراب الوطن من الإنجليز أمام جيش بريطانيا العظمى التى لا تغرب عنها الشمس المسلحة بأحدث الأسلحة وقوات مدربه على أرقى مستوى تدريب فى القتال والمناورات التكتيكية مما جعل المعركة بينهم محسومة قبل أن تبدأ ولكن رجال البوليس أثبتوا العزيمة والشجاعة والكفاح بأيمانهم القوى بالله ووطنهم بأسلحة نظامية اثبتوا أنهم أمام قوات محتلة يدافعون عن الشرف والكرامة بشجاعة متواصلة برغم الدمار والحرائق والخراب فى كل مكان التى أحاطتهم من كل جانب وعشرات من الشهداء والجرحى ولم تتحرك فى قلب البريجادير أكسهام الرحمة أو الشفقة بالسماح لعربات الإسعاف لنقلهم الى المستشفى أو تقديم المساعدات الطبية ضاربا بعرض الحائط جميع القوانين الإنسانية والأعراف الدولية باحترامها وأخذت مدفعية الميدان والدبابات والعربات المصفحة تقتحم وتدمر أسوار قسم البستان وتمطرهم بوابل من الرصاص والقنابل على مبنى قسم البستان وثكنات بلوكات الأمن بلا هوادة وتلطخت دماء الشهداء والجرحى فى طرقات وجدران قسم البستان فى كل مكان وتوقف القتال فجاءه ليجدد البريجادير أكسهام تهديداته لهم إذا لم يستجيبوا لندائه بالتسليم سيدمر المبنى بمن فيه وسمع أكسهام صوت النقيب مصطفى رفعت يزلزل ارجاء قسم البستان وهو يرد علية بكل شجاعة وحماسة الأبطال ( لن تستسلموا منا إلا جثثنا هامدة ) وجن جنون أكسهام لهذا الرد من النقيب مصطفى رفعت وهو يحمل السلاح بين جنوده من الابطال خلف السواتر الرملية وأيديهم على الزناد بأسلحتهم التى كانت تستغرق وقت أثناء التعمير والضرب بتعليماته لقلة الذخيرة التى على وشك الانتهاء وفى الساعة العاشرة صباحا جاء جندي الإشارة يستدعى النقيب مصطفى رفعت ليبلغه بأن وزير الداخلية فؤاد سراج الدين على التليفون يريد التحدث معه ولحظات عاد النقيب مصطفى بينهم ليبلغهم رسالة الوزير لرفع روحهم المعنوية وتقديره لشجاعتهم وأن يستمروا فى القتال حتى أخر طلقة ،واندلعت طلقات المدفعية وزمجرت الدبابات وانهمرت القنابل فى كل مكان وانهارت جدران المبنى أنقاض وتبعثرت الأشلاء ورويت الأرض بالدماء رغم هذا الجحيم ظل أبطال الشرطة يقاومون ببنادقهم العتيقة ضد المدافع والدبابات حتى نفذت ذخيرتهم وسقط فى ساحة الشرف 56 شهيدا ومائة جريح منهم 80 جريح بإصابة خطيرة و20 بإصابة خفيفة وقدرت خسائر الإنجليز 13 قتيلا و15 جريح ولم يعلنوا الأرقام الصحيحة لخسائرهم وتوقف القتال وخرج جميع من تبقي منهم علي قيد الحياة والمصابين بعد نفاذ الذخيرة فى طابور من داخل أنقاد مبنى قسم البستان رفعين رؤسهم من الشجاعة والشهامة فى خطوة عسكرية منتظمة وأصطف المئات من الجنود الإنجليز وعلى رأسهم البريجادير أكسهام بتأدية التحية العسكرية لهم بطريقة مشرفه لهم باستعراض عسكري وعزف البروجي لهم سلام سلاح بعدها قال للقادة من الضباط الشباب المصريين ( لقد قاتل رجال البوليس المصري بشرف واستسلموا بشرف ولذا فإن من وجبنا احترامهم جميعا ضباطا وجنودا ) بعد ذلك تم أسر من بقى منهم على قيد الحياة من الضباط والجنود وتم نقلهم بعربات نقل الجنود الإنجليزية الى معتقل الأسر بمنطقة نائية فى صحراء الإسماعيلية داخل الخيام وأفرج عنهم جميعا فى شهر فبراير وتم استخراج كرنيهات جديدة لهم بدلا من التى فقدت أثناء المعركة وموقع عليها حكمدار قسم البستان بالإسماعيلية على حلمي ولازال بعض الابناء والاحفاد يحتفظوا ببعض الصور للذكرى أما التاريخ فلا ينسى الأبطال والشهداء الذين رويت دمائهم ردهات قسم البستان وشوارع مدينة الإسماعيلية وتركوا بصماتهم للتاريخ من أوسع أبوابه فكان لنا فى كل عام نحتفل بذكرى الكرامة والبطولة والفداء ومن كان منهم على قيد الحياة بعد هذه المعركة أستشعر العزة لتراب وطنه ولعل أخر رجل شرطة كان على قيد الحياة من العسكريين والدي رحمة الله من الذين شاركوا فى هذا العمل البطولي وكان من ضمن الجرحى ومنح وقتها مكافأة خمسة جنيهات توارى بعدها فى صفحات النسيان كإنسان لكن البطولة والتضحية ستظل أبد الدهر محفورة فى ذاكرة التاريخ كذلك أطلق أسم الشهيد ملازم زينه فريد ندا على نقطة شارع محمد على المجاورة لمستشفى السبع بنات وقد أشاد الزعيم الراحل جمال عبد الناصر عام 1954 فى ذكرى عيد الشرطة ببطولة شهداء الإسماعيلية وقال كنا نراقب دائما أيام القتال كيف كان يكافح رجال البوليس العزل من السلاح رجال الإمبراطورية البريطانية المسلحين بأقوى الأسلحة وكيف صمدوا ودافعوا عن شرفهم وشرف الوطن كنا نراقب كل هذا وكنا نحس فى نفس الوقت أن الوطن الذى يوجد فيه هذا الفداء وتوجد فيه هذه التضحية لابد أن يمضى قدما الى الأمام ولابد أن ينتصر لقد راقبنا معركة الإسماعيلية وكنا نتلظى فى الجيش كنا نريد أن نفعل شيئا ولكننا فى تلك الأيام لم يكن لنا حيلة ولكن كان هذا يدفعنا الى الأمام وذلك بدفاعكم واستشهادكم فى الإسماعيلية انتهت كلمات الزعيم الراحل جمال عبد الناصر وأزيح الستار عن النصب التذكاري لرجال الشرطة بمبنى بلوكات النظام بمدينة العباسية تكريما لهم بحضور اللواء محمد نجيب رئيس الجمهورية وفى ذكرى معركة 25 يناير من كل عام بمدينة الإسماعيلية يقام احتفال خاص بتكريم أبناء الشهداء من قبل مدير الأمن بالنيابة عن وزير الداخلية ليهنئ أسر الشهداء وجميع من شارك فى هذه المعركة التاريخية من رجال البوليس ورجال المقاومة من المدنيين واستضفتهم وتكريمهم فى مكتبة بمديرية أمن الإسماعيلية كذلك أبناء وأحفاد الشهداء أما العملاء والخونة فيتذكرهم التاريخ أيضا ولكن فى مزبلة التاريخ لما اقترفوه فى حق الشهداء والأبطال من رجال البوليس ورجال المقاومة وقد خرجت كلمات من قلوب أبناء الإسماعيلية تتغنى بهذا الحدث التاريخي على أنغام السمسمية لتكون شاهد على التاريخ وتحدد اسم الخائن الذى أرشد الإنجليز على أسلحة الفدائيين بمقابر المسلمين من أجل حفنة من الجنيهات الذهبية باع شرفة وكرامته ووطنه ولم يشفع لهم التاريخ على مر الأجيال إذا كانوا على قيد الحياة ليندموا ويتحسروا على ما اقترفوه فى حق الوطن وإذا كانوا رحلوا ليدفنوا معهم وصمة العار التى تطاردهم فى كل مكان أما أبنائه وأحفاده فهم ذرية صالحه فهم أبناء أوفياء ومخلصين للوطن ويقدمون العطاء والوفاء والتضحية والبناء من أجل محي وصمت العار التى أرتكبها أجدادهم فى حق كل شهيد تقول كلمات الأغنية التى تغنى بها الفدائيين ورجال المقاومة فى ذلك الوقت ويتغنى بها أبناء مدينة الإسماعيلية في كل المناسبات والأفراح (بعد ما كان الكنج معنا. أخد أعداءنا على الجبان)؟ فاتحيه لرجال الشرطة وشهداءها الذين ضحوا بأرواحهم من أجل أن نعيش في أمن وسلام في عيدهم وتحية للشهداء الذين استشهدوا من الفدائيين والمدنيين من ابناء الاسماعيلية ولازال رجال الشرطة يقدمون التضحيات كل يوم بأرواحهم ودمائهم من أجل المحافظة على تراب مصر الغالي وتطهيرها من العصابات الارهابية والخارجين عن القانون التي بليت بها مصر علي مدي عشر سنوات منذ 2011 حتي الآن. فلولا ملحمة المجد والخلود لهؤلاء الأبطال التي مهدت لقيام ثورة 23 يوليو عام 1952؟