فوجئت بأحد المتنطعين على السوشيال ميديا يجزم أن نجيب الريحانى مات مسلما وأن أهله تكتموا هذا الخبر، ولأننى قضيت سنوات أبحث فى سيرة وتراث هذا الفنان العبقرى فقد استفزنى ما قرأت لعدة أسباب، أن هذه المعلومة وردت على سبيل الشائعة بعد وفاته لأنه كان يضع بجواره عندما مات نسخة من القرآن الكريم وأيضا نسخة من الكتاب المقدس، والسبب الآخر أن نجيب كان يحفظ بعض السور وكان يرددها ويتلوها أمام صديقه الشيخ محمد رفعت وكان يقلده أحيانا عندما يلح الشيخ نفسه فى طلب ذلك منه، وللأسف بعض المنصات الإلكترونية تحدثت عن إسلامه قبل الرحيل، وزاد البعض أنه أعلن إسلامه أمام أحد علماء الأزهر وهو الشيخ مصطفى القاياتى وهو الشيخ الذى خرج فى ثورة 19 مع الأنبا سيرجيوس بتنسيق من نجيب الربحانى نفسه لأنه كان صديقا للشيخ والقس وهو الذى أطلق شعار يحيا الهلال مع الصليب وكان بجواره سيد دريس وروزاليوسف فى مظاهرة المشخصاتية فى أول يوم لانطلاق مظاهرات ثورة 1919 ضد الاحتلال الإنجليزى، واعتراضا على نفى سعد زغلول.
نعود لسؤال البعض فى مواقع التواصل هل أعلن الريحانى إسلامه قبل وفاته؟ الحقيقة يذكرها بديع خيرى فى مقدمة مذكرات الريحانى التى نشرتها دار الهلال بعد رحيل الريحانى والتى يؤكد فيها أن الريحانى مات وبجواره نسخة من الكتاب المقدس ونسخة من القرآن الكريم وكتاب ألفية ابن مالك، وأضاف بديع خيرى أن الريحانى كان يحفظ أجزاء من القرآن الكريم ويتلوها أمام الشيخ مصطفى القاياتى العالم الأزهرى الشهير، ويعود حفظ نجيب للقرآن إلى سنوات دراسته الأولى فى مدرسة الخرنفش، حيث تعلم اللغة العربية على يد الشيخ بحر والذى احتضن نجيب لأنه كان يلقى الشعر بصوت منغم وتشكيل منضبط، وكان الشيخ بحر -حسبما ذكر فى مذكراته- يطلب منه تلاوة القرآن لحلاوة صوته، وأيضا كان نجيب يحفظ مقدمة ألفية ابن مالك التى ترصد قواعد اللغة العربية، وكان نجيب يفتخر انه يحفظ الألفية ويرددها أفضل من طلاب الازهر ،إذن نستخلص من ذلك أن نجيب الريحانى الكلدانى المسيحى الكاثوليكى عراقى الأصل كان يحفظ القرآن كما يحفظ آيات الإنجيل وأنه لم يفرق بين الديانتين، بل كان البعض يتصور أنه مسلم وأن بديع خيرى زميله والكاتب الذى كتب معظم أعمالهما مسيحي، وحدث أن والد بديع مات فذهب نجيب إلى أقرب كنيسة بينما كان العزاء فى المسجد، وعندما ماتت لطيفة أم نجيب ذهب بعض الجمهور إلى أقرب مسجد للتعزية وهذا معناه أن فكرة المواطنة والهوية المصرية كانت هى الصخرة التى تتمزق عليها أية دعاوى للتفرقة على أساس الدين وأن أية فتنة طائفية كانت تموت فى مهدها، وفى تاريخ الريحانى صداقات قوية مع العديد من المشايخ ومنهم الشيخ أحمد الشامى الذى مون مع شقيقه فرقة مسرحية جوالة كانت تقدم المسرحيات العالمية فى عصر اتسم بالتعدد الثقافى فى بدايات القرن العشرين وهذه الفرقة التحق بها الريحانى وهو شاب بعد أن هرب من وظيفته بالبنك الزراعى واتهم فى واقعة كان بريئا منها وهى واقعة التهجم على زوجة رئيس القلم الذى كان يعمل به فى البنك، وأثناء مشادة معه سقط مغشيا عليه وتصور أنه مات وظل مختفيا وسط الفرقة الجوالة فى الأقاليم حتى ظهرت الحقيقة على يد صديقه عزيز عيد وأرجعه للقاهرة، وهناك شيخ آخر هو عبدالرحيم بدوى صاحب مطبعة الرغائب وكان يترجم الريحانى له بعض الروايات الفرنسية وكان الشيخ عاشقا للمسرح وأراد أن يؤجر فرقة الريحانى وينفق عليها فأحاله الريحانى لمدير الفرقة الخواجة أصلان الذى وقع معه عقدا مقابل دفع 35جنيها فى الليلة لمدة شهر ولكن الإيراد لم يغطِ المبلغ فذهب الشيخ يصرخ للريحانى الذى تنازل عن أجره ليعوض خسارة الشيخ عبد الرحيم، ولكن يظل أهم شيخ فى حياة الريحانى هو الشيخ سيد درويش الذى حدثت بينهما كيمياء خاصة ومنذ انتهاء الحرب العالمية الاولى أبدعا معا أعظم تجليات المسرح الاستعراضى ومنها العشرة الطيبة والباروكة والليالى الملاح.. ويذكر الريحانى فى مذكراته أنه أمام سيد درويش كان يشعر بالوحى والإلهام بتدفقات ساحرة، وفى الجلسات المشتركة بينهما كان درويش يقول عبارة ليكملها درويش ويكسبها بديع خيري، ومن هذه التجليات قوم يا مصرى وأغانى الحرفيين وغيرها من هذا التراث الخالد، ولاعجب أن هذا الثنائى كان صوت ثورة 19 وصاغا معا أعظم معانى الهوية الوطنية التى كان شعارها الدين لله والوطن للجميع، هذا التراث وهذه السيرة نحتاج لتقديمها الآن بشدة لنقول للأجيال إن المواطنة فوق أى اعتقاد وأن الوطن فوق أى اعتبار.