كان نصيبي في «ويبنار» عن حركة الإخوان المسلمين أن يكون حديثي عن مستقبل الحركة بعد أكثر من تسعين عاماً على مولدها. كان طبيعياً أن يكون هناك تركيز على النشأة والروافد الفكرية التي أدت إليها، وحالها الآن بعد تفاعلاتها مع ما جرى في المنطقة من تطورات خلال السنوات العشر الأخيرة بعد ما سمي «الربيع العربي» ونتائجه المأساوية في المنطقة العربية من انهيار دول إلى حروب أهلية.
وبالطبع، فإن هناك الكثير من المداخل لمقاربة الموضوع من الزوايا الفكرية والاقتصادية والاجتماعية، ولكن ما يهمنا هنا هو المدخل السياسي، وهو أنه بعد أن تنتهي كل المقاربات التي بالتأكيد تلقي أضواء على الأمر، فإن الحقيقة السياسية لـ«الإخوان» هي أنها حركة فاشية شمولية فيها من السمات الحركية والآيديولوجية ما يجعلها تماثل الحركات المماثلة في مذهبيات أخرى، مثل النازية والفاشية والشيوعية بنماذجها وأشكالها المختلفة. ما تتفق عليه كل هذه الحركات مهما تعددت المنابع بداية في رؤية للوجود مع نهاية في كل الأحوال لها طبيعة «طوباوية» تبدأ من المجد للأمة وحتى الجنة في السماء، وبينهما نوع ما من الجنة على الأرض. هذه الحركات جميعها لا تعطي قيمة للإنسان أكثر من كونه حقيقة إيمانية بالفكر وعليه السمع والطاعة، وليس سلوكاً اجتماعياً خالقاً ومبتكراً ومعمراً للأرض. جميعها لها أصول تاريخية طويلة المدى بحيث تظهر وتختفي، ولكنها لا تفنى وتظل دوماً قادرة على فرض نفسها بشكل أو بآخر؛ وما يجمعها جميعاً أن لكل واحدة آيديولوجيا وتنظيماً محكماً وخطة للعمل في جميع المراحل التاريخية.
الشيوعية هُزمت في الحرب الباردة، ولكنها بقيت لا تزال في شكل الحزب الشيوعي الصيني والآخر الفيتنامي والثالث الكوري الشمالي، وكل ما فعلوه كان فك الارتباط بين الشمولية وسيطرة الدولة المباشرة على وسائل الإنتاج؛ وبقيت السيطرة غير المباشرة على السوق الحرة وكل ما يفضي إليها ويخرج منها. الفاشية والنازية هُزما في الحرب العالمية الثانية ولكنهما تجددا خلال العقد الأخير كأفكار لليمين الأميركي والأوروبي المحافظ، وفي لحظات كانت لهما تعبيرات سياسية مباشرة. الإخوان المسلمون ليسوا استثناءً في هذه الصحبة، فلديهم آيديولوجيا تعود جذورها إلى فلسفة الخوارج ورؤيتها عن مصدر السلطة في الدولة، ولديهم تنظيم محكم، وخطة للعمل بما يتناسب مع كل مرحلة تاريخية وواقع جغرافي. الجانب الفكري من الطبيعي أن يعيش طالما كان هناك دارسون وباحثون وطرق للحفاظ على النصوص والمرجعيات؛ ولذا ينتقل في الذاكرة الإنسانية من جيل إلى آخر. ولكن التنظيم هو ما يبعث الفكرة في الواقع، وكان ذلك هو الفارق الذي قدمه حسن البنا عام 1928 لأفكار أصولية وشمولية لا مانع لديها من إراقة الدماء.
الفكرة المركزية في ممارسات تنظيم الإخوان هي التفرقة ما بين حالة الضعف وحالة التمكين، وكلتاهما لها علاقة بتوازن القوى السياسي والأمني في المجتمع. وما حدث فعلياً أن الإخوان عرفوا كيف يتعايشون مع نظم ملكية وجمهورية وبرلمانية؛ ولم يكن لديهم معضلة في معارضة التعددية الحزبية لأنها تقسم الأمة، ثم المناداة بأن تكون الانتخابات هي الحكم. وفي اللحظة الراهنة، فإن وجه الإخوان في الغرب هو الجماعة المعتدلة المؤمنة بالتآخي مع بقية الإنسانية وقيمها الديمقراطية والليبرالية؛ وفي لحظات سابقة عندما هلّ «الحراك السياسي» عن طريق الشباب العربي في العقد الماضي باتت مرحلة «التمكين» جاهزة للتطبيق عن طريق القوة واستخدام الإرهاب والترويع.
في اللحظة الراهنة، فإنَّ الحالة السياسية الإخوانية يمثلها سيطرة على المساجد والمراكز الإسلامية في الغرب، ومواجهات مع السلطة في كل الدول العربية التي نجت من الربيع المزعوم، وتلك التي قاومت ونجحت مثل الحالة في مصر؛ وتمثيل في السلطة مباشر في تركيا، وبالأكثرية النيابية في تونس، وبالأدوار المؤثرة في الأردن والمغرب، والتعامل مع التراجع في السودان.
التنظيم الدولي لـ«الإخوان» والموجود في أكثر من ثمانين دولة في العالم لا يتدخل في التفاصيل الدقيقة لعمل الفروع، وإنما يحافظ دائماً، أولاً على أن تكون الجماعة هي الحاضنة التي تربي ليس فقط الإخوان، وإنما تفرخ التوابع السياسية والإرهابية كافة. وثانياً، أن تكون قادرة على التعبئة المالية من خلال البنوك والاستثمارات الممتدة حول العالم. وثالثاً القدرة الإعلامية الدعوية في كل الأحوال لنشر الدعوة واستراتيجيات السيطرة على السلطة السياسية.
النظرة الشاملة في العالمين العربي والإسلامي تظهر أن الجماعة تعرضت لهزائم ونكسات كبيرة خلال السنوات القليلة الماضية، ولكنها لم تنتهِ ولها مأمن في الغرب حتى الآن، ومساندة من دول مثل تركيا وقطر اللتين جعلتا من أراضيهما ملاذاً للإيواء والتدبير الإرهابي والحملات الإعلامية. مقتربات التعامل مع الظاهرة الإخوانية بأبعادها كافة تراوحت حتى الآن بين ثلاث استراتيجيات: الاستئصال الأمني لجماعة سرية وإرهابية، حيث تُعامَل الحركة باعتبارها تعمل في مجال الجريمة المنظمة؛ والاحتواء أو الشمول داخل النظام السياسي كما تنادي الدول الغربية ويحدث في تونس والمغرب؛ ومؤخراً كانت المواجهة من خلال «تجديد الخطاب الديني» بإعادة بعث ما في الدين الإسلامي من تسامح واعتدال، علَّه يجفف منابع التجنيد للجماعة وتوابعها من الجماعات الإرهابية. وما هو واجب الإضافة هنا ما سبق طرحه في مكان آخر عن ضرورة «تجديد الفكر المدني» أو الدخول في مرحلة أخرى من «تجديد الفكر العربي» يقوم بجدية كبيرة على فكرة الدولة الوطنية في مواجهة الدولة الدينية، والتقدم في مواجهة الخلاص، والعلوم في مواجهة الشعوذة الغيبية.
الدولة الوطنية يجري تكوينها عندما يعود تاريخ الدولة إلى لحظة استقرار شعب وحضارة على قطعة من الأرض لها حدود جغرافية مستقرة. والتقدم هو حالة دينامية انتقل فيها الإنسان من حالة أخرى، ومن ثورات زراعية إلى أخرى صناعية إلى ثالثة معلوماتية، وهكذا انتقالات على سلم صاعد في الشروط الإنسانية. والعلم هو تمجيد للعقل الإنساني وقدرته على التفكير المنطقي والاكتشاف والتجديد وتعقب المجهول حتى ينكشف وليس الاستسلام لما فيه من غموض وظلام.
كان السعي إلى الإصلاح والتجديد واحداً من ردود الفعل العربية البنّاءة خلال السنوات الأخيرة لما جرى في المنطقة منذ عام 2010 من تراجع وصراع. وظهر ذلك بقوة في الكثير من الدول العربية التي قامت بتغييرات جذرية في السعي التنموي والاكتشاف التاريخي والنهضة التعليمية والامتزاج بالعصر وما فيه من تقدم علمي وتكنولوجي. وما حدث في هذا الاتجاه جرى معظمه في إطار الدولة الوطنية مع درجات مختلفة للتعاون خلال المواجهة مع جماعة الإخوان المسلمين التي من المقدر أنها لم تنتهِ بعد، لأنها تتحرك بمرونة عالية بين الأقطار المختلفة، وبين الضعف والتمكين بحزم تنظيمي بالغ، وتركيب ما بين المركزية واللامركزية بين التنظيم الأم والفروع، والاستفادة من الأوضاع الإقليمية والدولية المتغيرة.
مكافحة الإخوان خلال المرحلة المقبلة سوف تتطلب المزيد من التعاون الإقليمي والدولي للتعامل مع المتغيرات الجديدة للجماعة والجماعات الإرهابية الأخرى.