" أولئك الذين يميلون إلى الثرثرة " صنعوا اللغة الفكرية غير المفهومة ، و لم يتمكنوا من صنع حضارة قديمة يحتفون بمعالمها و مصادرها ، أطلقت عليهم الشعوب المتحضرة من صانعي الفلسفة و أصول التفكير اسم " بارباروس" ، واحدة من أسمى الارتباطات التي تجمع درجات الفهم لتقييم مفهومية اللغة بأسس تعتمد على الانتخاب الطبيعي لتطور ثقافة الإنسان بالتوازي مع طباعه اللغوية و سلوكياته الحضارية ، و تحفظا على الكثير من الجزئيات ، و ربما سأناقش هذه المسألة دون الخوض بالشؤون التصادمية و الركون إلى مرجعيات راديكالية عامة. لن نرفض على الإطلاق الخضوع لأخلاق الواجب الفكري فهو من هذا المنبر مبدأ السادة و السيدات. و أستبعد من بين هذه السطور التنظير لإعلاء سياسة إثنولوجية ضيقة للكائن الثقافي على مر عصوره و تطوراته . و إن كان على القارئ أن يتسرى بتأويلاته فليفعل قبل أن يتأكد من المقاصد المشروعة للمعاني المراد تفصيلها قبل التهيج و التهييج.
لعل الحياة العامة تزخر بقيم ثابتة قد صنعتها اللغة و الثقافة لبناء ترسانة اجتماعية بصرف النظر عن تصنيفها إلى حضارية أو غير حضارية حتى تبلغ ذروة الاستخفاف بالعقول و إسباغ الأفكار بقدسية تضاهي قيم الدين و التدين . إن في هذا الشأن على وجه الخصوص تقليل من قيمة العقل الأمين الذي استوصى الله به كل خير و علم و تهذيب، يقول الله تعالى : ( و إن كنتم على سفر و لم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة فإن آمن بعضكم بعضا فليؤد الذي أؤتمن أمانته و ليتق الله ربه ) / الآية 283 – سورة البقرة.
ولعل الرابط الحقيقي بين الأمانة و الكتاب و الرهان قوي جدا في هذه الآية الكريمة ، و ربما هي المفهوم الحقيقي الذي يتجول في أذهاننا ليلا و نهارا لتحقيق الهدف الأسمى من لغة الإنسان و أخلاقه دون أن نتمكن من إدراكه و السيطرة على أبعاده سيطرة عقلانية ، حيث تصنع في طياتها مظهرا من مظاهر سلوكياته الحضارية و المجتمعية و الأخلاقية العادلة للإنسان نفسه دون أن تكون للمسألة تبعات الضرر الفكري من براثن الغلو و التطرف .
و لو ظلت كل بنية اجتماعية تعلي صوت الجماعة على صوت الحق لتثرثر بالتحصيل المجمع من العادات و التقاليد الذي صنع عقله الاجتماعي المتحجر ، ما كانت الشعوب لتستفيد من قيام الثورة الإسلامية بأعمق صورها الأخلاقية و الحضارية . من عام 627 للميلاد ، كان على سيد البشرية جمعاء، محمد بن عبد الله صلى الله عليه و سلم ، أن يكاتب قريشا و حلفائهم من العرب على أمن أرواح المسلمين و الكافرين و حفظها لعشر سنوات كاملة ، بلغت اللغة أشد لحظات الصدام مع تلك المفاهيم الجديدة التي واجهت العرب خلال الخطاب اللغوي الذي حمل في ثناياه ثقافة جديدة . لقد كان إمام البلغاء علي بن أبي طالب كاتبا لرسول الله محمدا صلى الله عليه و سلم ، و كان بالمقابل ، سهيل بن عمرو رسول قريش و أحد أعظم فصحائها ، و لم يتم الاتفاق على لفظتي ( رسول الله) ، و أصر على إبدالها باسم ( محمد بن عبد الله ) ، فطالما فعل العرب هذا ثباتا و وفاءا لثقافة النسب و قوانين القبائل العربية . و حمى وطيس حرب لغوية و ثقافية بين علي و سهل ، كان من الحكمة مجارة تلك العقول المتحجرة لأجل تكاليف قيم إنسانية باهظة الثمن و تعليم درس لا ينسى من السلام ، كان رسول الله قد فصل في مسألة الاختيار بين لغة العرب و ثقافتهم و إرساء القيم الجديدة الحضارية التي من شأنها أن تغير طباع الإنس و الجن و معتقداتهم.
و في نص آخر من النصوص القرآنية ، كان الله يبين للإنسان قانونا حضاريا حواريا لتطوير مملكة الأفكار و الابتعاد عن التعصب خلال الحوار الثقافي و الفكري، و أن الله قد جعل من لدنه لغة التحضر فطرة و طبيعة مهذبة لحل مشاكل الفرد و إنهاء الصراعات الأخلاقية و بيان العقل المفكر : ( إن الذين ينادونكم من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون) ، ( يا أيها الذين امنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين ) الآية 4، 6 – سورة الحجرات . و أقتبس هنا قولا للكاتب السعودي غازي عبد الرحمن القصيبي حين قال " عندما قرر الصهاينة إنشاء دولة لهم كانت اللغة العبرية لغة ميتة ، بعثوها بعثا من المعاجم و استخدموا مفرداتها حتى أصبحت لغة حية ، أما نحن فقد ورثنا أكثر اللغات حياة فبذلنا أعظم جهد لقتلها "
أيها السادة، ربما قد أصبح في أعناقنا ديونا كثيرة من مكارم الفهم و التمييز بين القيم الحضارية و فضائل التطور العلمي التي تتضمن قيما لبناء الذات المفكرة و نخلط في مسائل كثيرة قانونا اجتماعيا من صنع العادة بقانون شرعي منزل من سابع سماء، و لنتخذ مثالا آخر، عن الميلاد الحضاري الجديد ، حيث تمت المتاجرة بالأصول اللغوية و تلقيح الوعاء اللغوي العربي بالمستورد اللاتيني و الأعجمي خدمة لقيامة العلوم الفيزيائية و الطبية و الفنية مما تسبب في تمزق جزء كبير من الهوية العربية ، و وصفه علماء اللغة بالتجدد و إعادة بناء الحضارة العربية و الإسلامية وفقا لقوانين الدولة المعاصرة و امتثالا لحاجة التطور و الاتصال و الصناعة العلمية و التخصصية .
تسببت كل هذه العوامل المستحدثة في ظهور مشاكل جيوب اثنولوجية و رؤى طبقية امتد تاريخها منذ أزمنة بعيدة حيث أفرزت اللغة الانكليزية مثلا عن لهجتين لغويتين صنفتا لونيا للغة العرق الأبيض و لغة العرق الأسود ، و أفرزت عن لغة طبقية تتمثل في اللغة الملكية التي احتكرت الثقافة لزمن بعيد ، و كان الكتاب و الرواة يحاكمون بالبلاط محاكمة مجرم حرب حول كل شيء تبثه كلماتهم و نصوصهم الأدبية . أصبحت مقاصد اللغة أحد الجرائم التي تمس الحكام و الملوك، و كردة فعل، حوصرت جل أفكارهم بالسيوف الحادة جعلتهم يرمزون و يضمرون المعاني بعيدا جدا ليفككها قارئ ما وراء السطور. كان شارل مارتل ( قائد عسكري فرنجي 718- 741) هذا عمليا سيد أوروبا في شمال جبال الألب من البرانس إلى هنغاريا ، مترأسا عددا كبيرا من الحكام الناطقين بالفرنسية اللاتينية ، و اللغات الألمانية العليا و المنخفضة ( هربرت جورج ويلز ، مفكر و روائي انجليزي) ، و قد أسس هذا القائد العسكري فكرة الفرنكفونية اللغوية بصورتها الاستبدادية لتشرح ثقافته و قيمه الشوفينية الفرنسية في تأسيس بلاد عظيمة ممن يتكلمون اللغة الفرنسية كنمط من أنماط صناعة المجد الفرنسي ، و انتصر مارتل ، مؤسس الإمبراطورية الكارولينجية ، المثل الأعلى لأرض الفرانك و الفرنكين ، على والي الأندلس عبد الرحمن الغافقي في معركة بلاط الشهداء التي حصلت بعد الذكرى المئوية الأولى من وفاة محمد صلى الله عليه و سلم : (632 للميلاد : وفاة محمد صلى الله عليه وسلم – 732 للميلاد : انتصار مارتل بمعركة بلاط الشهداء) . و لم يكن هذا الموقف سوى مهانة عظمى لحضارة محمد و أتباعه و إفرادها بحصار لغوي و نظيره الفكري يتمحور حول بث فكرة لموعد أجل قريب لسقوط القيم الحضارية الإسلامية.
و من خضم كل هذا، لن يتمكن الفرد اللغوي و الفرد المتمسك بجذور ثقافة ما و الفرد المتحضر من فصل الردود و الخطاب التاريخي المتبادل بين المفاهيم ، و أهم سؤال قد يتبادر لذهن القارئ بعد التوصل لمغزى كل تلك الأحداث التاريخية الجامعة لمفهومي اللغة و الحضارة : فمن منهما قد صنع من ؟ هل ثوابت الخطاب اللغوي المفسر أم قيم المتحضر المتحرك من أجل الإبصار نحو عالم ثقافي غير تقليدي؟