"هذه درة البحر ببناياتها البيض على زرقة الأمواج، فتشع لمحات تحت الأضواء، على صدأ العصور".
*فؤاد أفرام البستاني
سور أرواد
لم يبق من السور الكنعاني (الفينيقي) في جزيرة أرواد إلا القواعد، تعلوها حجارة قليلة. على أنها تشير بضخامتها ودقة تقصيبها، وإحكام صنعها، على ماكان عليه هذا السور من السمو والمنعة، حفظ عاصمة مملكة أرواد لقرون طويلة.
ويقول عالم الآثار الفرنسي أرنست رينان Ernest Renan: "لا أعتقد بوجود خرائب اوقع في النفس من سور أرواد"!. ويذكر الراهب مارتن اليسوعي في كتابه (تاريخ لبنان): "إن منشأ السور يرجع الى الكنعانيين" وقد ذكر أن علوه كان قرابة عشرة أمتار ويرجح سبب تهدم بعض جوانبه الى حصار بحري. أو بفعل العوامل الطبيعية والأمواج العاتية بمرور الزمن. ومع ذلك مازالت أجزاء عديدة منه بحالة جيدة. ويلاحظ أن أساس السور كان مبنياً على الصخر، مع أشغال مصنوعة في البحر، لأجل تنظيم المداميك ومحيط الجزيرة، حتى لايضيع شيء من مساحة الجزيرة وبعض الأجزاء الراكزة إلى اليوم في أماكنها تتكون من حجارة ضخمة جداً.
كان هذا السور يحيط بالجزيرة كلها، يحميها من هجمات الأعداء. ومن طغيان الأمواج. وقد كان علو هذا السور –حسب التقديرات- مابين (9- 12 متراً) وهو ذو بناء جبار، ويعتبر أفضل سور متبق من العهود الفينيقية والهلنستية والعصور الوسطى. ويتراوح طول الحجر الرملي في بناء السور مابين (3- 4 أمتار) وعرضه مابين (1.5 – 2متراً).
ويعتقد بعض الباحثين في علم الآثار. أن هذا الطراز هو من مزايا البناء الهلنستي. كما أن بعض الحجارة في بنائها ترقى لزمن الاحتلال الفارسي للساحل السوري، في القرن السادس قبل الميلاد. ولكن الأمر المتفق عليه. هو أن هذا السور، قد تم بناؤه في عهود مختلفة.
هذا... ويلاحظ أن معظم الهدم والإنهيارات قد وقعت في القسم الجنوبي الشرقي. في حين تبدو الأقسام الشمالية الغربية قائمة في بعض الأجزاء ومتداعية في أجزاء أخرى..
وتقول الباحثة في الاثار الغارقة تحت سطح الماء، البريطانية هونور فروست Honor Frost: "إن تحديد عصر سور أرواد والهدف من بنائه هو من الأمور القابلة للمناقشة".
ويبدو من فحص المرفأ كوحدة وظيفية. أن هذه الجدران كانت في الدرجة الأولى، وسيلة من وسائل الدفاع ضد البحر. والظواهر تدل على أنها كانت موجودة في العصر الهلنستي. ولكن مجموع المنشآت يدل على عصر أقدم. كانت فيه وسائل البناء تحت الماء مجهولة.
ولايغفل أن السور قد تهدم نتيجة حصار بحري. والغالب أنه قد تهدم نتيجة العواكل الطبيعية، بمرور الزمن تدريجياً. وهناك دلائل على الانهيار الطبيعي للسور.
إن الأجزاء الشمالية الغربية من السور محفوظة جيداً. ونلاحظ على طول الشمال والجنوب، أن السور بني على طرف الماء. وقد توضعت حجارته غالباً على دعائم، وغاصت أجزاء من أساسه.
ومن الملاحظ أيضاً أن حجارة البناء في الشمال والجنوب، تختلف عن الحجارة المستعملة في الأجزاء الشمالية الغربية، من حيث الكبر والصنعة فهي تأخذ شكل حرف U وهذا من مزايا البناء الهلنستي. إلا أننا نلاحظ بعض الحجارة من العهد الفارسي.
وعلى طول الجزيرة من الجهة الجنوبية، تهدم السور البحري، وسقطت حجارته في المياه الضحلة. ومعظم الكتل الحجرية المشاهدة في مستوى الماء. قد جاءت من المداميك السفلي للجدار البحري (السور) بينما تلك الحجارة الغاطسة، هي من أعلى السور. كذلك سقطت في البحر، الأجزاء العلوية من الجدار البحري في شرق الجزيرة. ونلاحظ أن حجارة الجدار البحري والأبنية في الشمال، قد سقطت بنفس الطريقة الى مساحة (60 متراً).
وقد لاحظ رينان Renan في رحلته الى الساحل السوري عام (1860م) بقايا بناء كبير. ربما كان يشير بذلك الى بقايا الأبنية في طرف الفسحة الشرقية.
وتوصي السفن الداخلة الى ميناء أرواد. أن تدخل من الطرف الشمالي. لأن الجنوب ضحل، والحواجز الشمالية، لاتشبه الحواجز الجنوبية. فهي لم تتهدم وتسقط في البحر. بل سقطت نحو الجزيرة.
قلعة أرواد
شيدت قلعة أرواد. في القسم الغربي من الجزيرة. وهي فنينيقية في أسسها،فرنجية في تصميمها، عربية في بنائها المائل الى اليوم.
تشرف هذه القلعة. على أطراف الجزيرة من جهاتها الأربع. وهي تشغل مساحة واسعة نسبياً. وقد بنيت بالحجارة الرملية المتوفرة على الساحل المجاور. وعلى أرض صخرية. وهي تتألف حالياً من طابق واحد تعلوه أبراج مستديرة، ذات شرفات ومرامي سهام.
وترتفع في برجها الجنوبي الغربي منارة، يسرح الطرف من قاعدتها على أبهج المناظر من ناحية طرطوس، فجبال لبنان الملتحفة بالسحاب، فلبنان في الأفق الجنوبي، مكللة قممه بالثلوج البارقة تحت الغيوم.
والدخول الى القلعة، يتم من باب عريض، مرتفع عن مستوى الأرض بمقدار ثلاثة امتار. والصعود إليه جانبياً بواسطة درج، ويبلغ سمك جدار المدخل حوالي مترين. ويبدو في قسم الباب العلوي إلى اليمين الحجر الذي نقش عليه الفرنج، الشعار الحربي اللوسيني (الأسد والنخلة) ولعل النخلة هنا تشير الى البلدان العربية.
ويلي الباب الرئيس مباشرة، بهو واسع سقفه معقود بالحجارة. وفي الجهة اليمنى للمدخل باب صغير، يصعد منه الى سطح القلعة وأبراجها، بواسطة درج لولبي، والى يسار البهو غرفة صغيرة، ربما كانت مقراً للحرس. ومن البهو يخرج المرء من باب عريض واسع، الى ساحة القلعة المستطيلة (17 * 32 متراً) تحيط بها من جوانبها الأربعة أرصفة عريضة. ويحيط بالأرصفة عشرون مهجعاً، سقوفها معقودة بالحجارة، وأبوابها صغيرة، وفي كل معهجع نافذتان. وفي الزاوية الجنوبية من الساحة، مطبخ كبير، يليه سرداب مظلم. يقع تحت الأرض لعله كان سجناً!..
وقد زودت القلعة بمياه الشرب من أربعة آبار حفرت في أرجاء الساحة، تتزود بمياه الأمطار في فصل الشتاء. وإذا شاء الزائر الصعود إلى الأبراج يأخذ طريقه منطلقاً من الساحة باتجاه الشمال فيدخل ممراً يؤدي الى سور القلعة الشمالي ثم ينعطف يميناً ليصعد درجاً لولبياً يؤدي به الى سطح فسيح محاط بالأبراج والشرفات ومرامي السهام.
البرج
يوجد في الجهة الشرقية من الجزيرة. برج كبير يطل على البحر مباشرة. وقد شيد في العهد الأيوبي من الحجارة الرملية المنحوته. وهو يتألف من طابقين. واجهته تشرف على الجهة الغربية. ويدخل إليه من باب عريض مرتفع. وقد نقش على واجهته الرئيسة وفوق الباب الشعار اللوسيني.
نبع الماء العذب
كان الأرواديون يختزنون مياه المطر الآتية من سطوح المنازل في صهاريج وقد اكتشف الأرواديون القدماء بين الجزيرة واليابسة، ينبوعاً من الماء العذب، على عمق ستة أمتار، فاستخدموه منذ أقدم الأزمنة. ونقلوا ماءه بواسطة قمع ضخم مقلوب من الرصاص. وأنابيب نحاسية أو جلدية.
وهذا النبع لايزال معروفاً، بين بحارة الجزيرة الى اليوم. ربما كان هذا أقدم ماسجله التاريخ عن وجود مياه عذبة تحت سطح البحر، وقد ورد ذكر هذا النبع عند استرابون. ومن المعروف أنه توجد ينابيع كثيرة تحت سطح البحر، أمام الشواطئ السورية واللبنانية. وقد ألمحت الى ذلك الشاعرة السورية القديمة (بلقيس) في القرن السادس ق.م
ومما يجدر ذكره أن الغواص الأروادي صلاح بهلوان، قد تمكن من انتشال ذلك القمع الرصاصي المشار إليه. أما اليوم فإن بئراً جديدة. باتت توفر للسكان حاجتهم من الماء.
السفن الأروادية القديمة
كان الكنعانيون/ الفينيقيون أول شعب بحري. بل أول شعب في التاريخ تاجر في البر والبحر. وقد ظهرت سفن أرواد القديمة منذ حوالي عام (1400 ق.م) مرسومة على المباني الأثرية المصرية. وهي بشكل هلال لها مقدمة ومؤخرة مرتفعتان. ومجدافان يستعملان كدفة للسفينة، وفي أعلى الصاري، شراع واحد مربع الشكل.
وكانت أقدم السفن الكنعانية، التي لدينا رسوم عنها، تسير بواسطة الشراع والمجاديف. وهذه السفن كانت عريضة في وسطها، بحيث كانت حمولتها كبيرة، بدون أن تكون طويلة.
وتظهر السفن الكنعانية التجارية والحربية من العصور الأخيرة، على الآثار الأشورية بمقدمة مرتفعة. ومدك مروس في المقدمة، يمكن استخدامه في القتال وطابقين. وبناة السفن الكنعانيون، هم الذين بدأوا عادة وضع صفين من المجاذيف، الواحد فوق الآخر. كان الطابق الأسفل من السفينة يضم عادة صفين، كل منها بأربعة أو خمسة مجاذيف بحيث كان عدد المجذفين كلهم ستى عشر أو عشرين وفي العصور المتأخرة بلغ عدد المجذفين خمسين مجذفاً.
كان الركاب يقيمون في الطابق الأعلى. وكان البحارة يستعملون عموداً واحداً للشراع. وهذا النوع من السفن، هو الذي اقتبسه اليونانيون القدماء. كما يتضح من الرسوم على الأواني اليونانية.
ويعطينا (النبي حزقيال) في الأصحاح السابع والعشرون، وصفاً مفصلاً لتجارة الكنعانيين البحرية والبرية، في مظاهرها المختلفة. وهو يذكر بين وارداتهم الفضة والحديد، والقصدير والرصاص من اسبانيا، والكتان من مصر، وأواني النحاس الأصفر من أيونيا (بلاد اليونان القديمة) و الخرفان والماعز من شبه جزيرة العرب.
وقد تكون السفن الكنعانية هي التي أدخلت من اليونان الى سوريا نبات الغار والدفل والسوسن والنعناع والنرجس. وقد بقيت الأسماء اليونانية لبعضها في اللغات السامية.
ويذكر المؤرخ توسيديد، أن الملاحين والتجار الكنعانيين، هم الذين حملوا الى العالم الاغريقي المبتكرات الشرقية. وأن الاغريق كان لهم دور تنظيمها والتوفيق بينها. وفرض وحدة على عناصرها المختلفة.
لقد بلغ دور أرواد البحري الذروة في القرنين الثاني والأول قبل الميلاد وكان على جميع السفن المتجهة من شواطئ مصر، وبلاد الشام الجنوبية نحو شواطئ سوريا الشمالية وبالعكس، أن تمر بها.
النقود في أرواد
أظهرت التنقيبات الأثرية مجموعات نفيسة من نقود أرواد، يرقى بعضها الى القرن الخامس قبل الميلاد، حاملة في الفضة أو البرونز أو النحاس، رؤوس الملوك والأمراء، وشعائر المملكة ديناً وتجارة وزراعة.
وأقدم مجموعة من النقود ترقى الى مابين عامي (450- 362 ق.م) ويمثل على بعض هذه النقود رأس الاله (داجون) أرواد، وعلى قفا النقد سفينة فينيقية، تمخر البحر ممثلاً بخطوط متماوجة. ومنذ السنة (362 ق.م) أصبح الأرواديون ينقشون على نقودهم دلفيناً أو حصاناً مجنحاً. ثم ظهرت رؤوس الآلهة اليونانية في نقود أرواد.
ومن رؤوس الحكام السلوقيين على نقود أرواد رأس أنطيوخوس الأول متوجاً، وأنطيوخوس الثالث الكبير، وديكران الأول الكبير لابساً التاج الأرمني، يعلوه نسران، وعلى قفا النقد اسم (ديكران) بالحروف اليونانية.
ومن أباطرة الرومان، مثلت النقود الأروادية رؤوس أوغسطوس وطيباريوس، وتراجان وماركوس أوريليوس وغيرهم.
ومنذ السنة (295 ق.م) تمثلت في نقود أرواد شجرة نخل، وأحيانا سنابل حنطة وعناقيد عنب. وفي عهد الرومان تظهر على النقود شجرة السرو، والأسد والثور. وكانت شجرة السرو من رموز الألهة أتارغاتس وعشتار.
ومن غريب الاتفاق ان فرسان الهيكل الفرنج، الذين احتلوا جزيرة أرواد، اتخذوا للجزيرة شعاراً مماثلاً، فنقشوا على مدخل قلعتها نخلة يواجهها أسد وقد وجد العالم الفرنسي رينيه دوسو R.Dussaud عدداً من النقود المعدنية الفضية سنة (1895) غارقة في رمال الشاطئ, وفي بعض الأطلال والخرائب وكلها سابقة للعهد المكدوني.