مقدمة
بنى الصينيون القدماء سور الصين العظيم كمنظومة دفاعية متكاملة لا مثيل لها في العالم حينها لصد شعب شيونغنو اسلاف عرق الهان وهي ثاني السلالات الصينية الحاكمة وكان ظنهم أن ذلك البناء سيوفر لهم الأمن والحماية والعيش بسلام.. لكن المدهش ان هذا السور لم يستطع إيقاف أي غزو حاق بالصين فلقد تمكنت القبائل الشمالية من تخطيه وتمكن المغول من هزيمتهم على جدرانه كما وقع السور تحت سيطرة عشيرة مانشو!!!
فما السبب؟! السبب بسيط أن الصينيون القدماء بنوا السور ولكن نسوا ان يبنوا الإنسان.. الإنسان الذي يحمى هذا السور فيكفي رشوة بسيطة للحارس ليفتح للعدو الباب..
لقد رسمت هذه القصة الطريق للقادمين فبناء الأمم يتحقق حينما يعلو بناء الإنسان بناء الحجر.. فهل يا ترى استوعبت بلادنا هذا الحكمة عبر تاريخها؟ لنرى..
عبد الناصر وسنوات البناء:
تمضي مواكب التاريخ حاملة رموز مضيئة أمتلكوا من الطموح والارادة والإصرار ما مكنهم من صناعة تحولات عميقة الأثر في مجتمعاتهم واعادة كتابة التاريخ.. أنهم نجحوا أحيانا واخفقوا في أحيانا أخرى ولكنهم بقوا جزءا من ذاكرة اوطانهم حينما ادركوا أن القيمة الحقيقة تنبع من بناء الإنسان ومن هؤلاء الرئيس جمال عبد الناصر الشخصية التاريخية الاستثنائية التي فرضت نفسها على مجريات الأحداث في عصرها وتركت بصماتها في العالم أجمع لما حفل به زمنه من أحداث جسام وتغييرات إقليمية ودولية خطيرة و حينما نتحدث عن عبد الناصر بهذه الصورة فنعني الفترة التي سبقت هزيمة 1967 والتي نجح فيها في تحويل مصر لقوة أقليمية داخليا وخارجيا لا يستهان بها.
النهوض بالمرأة :
حينما ينشد أي زعيم أن يرتفع بالإنسان و بقيم المجتمع لابد وأن يوجه نظره للارتفاع بقيمة المرأة فالمرأة هي المربى الأول دائما داخل الأسرة التي هي نواة المجتمع لذا فالمرأة الدعامة الأولى لبناء الأسرة القوية المتماسكة مما يرتقي المجتمع في النهاية رحم الله الشاعر الكبير حافظ ابراهيم حينما قال عن المرأة
الأُمُّ مَدرَسَةٌ إِذا أَعدَدتَها.. أَعدَدتَ شَعباً طَيِّبَ الأَعراقِ
الأُمُّ رَوضٌ إِن تَعَهَّدَهُ الحَيا.. بِالرِيِّ أَورَقَ أَيَّما إيراقِ
الأُمُّ أُستاذُ الأَساتِذَةِ الأُلى.. شَغَلَت مَآثِرُهُم مَدى الآفاقِ
لقد استطاع جمال عبد الناصر أن يحدث نقلة كبيرة في النهوض بالمرأة المصرية فتوسع في التعليم النسائي بشكل كبير وانتصر لحقها في ممارسة العمل السياسي والحزبي ولأول مرة في تاريخ مصر تتولى المرأة حقيبة وزارية وهي السيدة حكمت أبو زيد اول وزيرة للشئون الاجتماعية عام 1962 والتي أطلق عليها الرئيس الراحل لقب :قلب الثورة الرحيم. لقد أصبحت المرأة المصرية محط أنظار العالم في عصره.
نختلف او نتفق حول عبد الناصر ولكن السنوات الأولى لحكمه تركزت حول بناء الإنسان المصري لأول مرة في التاريخ فقد كانت كل العهود السابقة عليه تعني بإنشاء المشروعات العملاقة ولا تلقى بالا لبناء الإنسان وتوفير التعليم والصحة له وتتركه يرتع في الجهل وفريسة للأمراض والاوبئة.
مع تولي عبد الناصر مقاليد الحكم في مصر كانت سياسته واضحة بشأن النهوض بالإنسان المصري وحينما عهد بوزارة الثقافة لثروت عكاشة كانت وصيته له مباشرة من أن بناء آلاف المصانع أمر يهون إلى جانب الإسهام فى بناء الإنسان.
لقد جعل عبد الناصر بناء مصر الحديثة يقوم على ركيزتين تنمية الإنسان والتنمية الاقتصادية عبر المشروعات الزراعية والصناعية والمرافق ولكن كان بناء البشر قبل بناء الحجر وهنا تكون الاستفادة من عبر التاريخ فأصبح التعليم متاحا كالماء والهواء للجميع بالمجان واصبحت المدارس بكل ربوع مصر وأرسلت البعوث العلمية إلى كل مكان وكانت مصر حاضنة للأدب والأدباء من العالم أجمع وصارت الصحة للجميع فكانت المستشفيات والوحدات الصحية في كل مكان بمصر.
العلاقة مع أفريقيا :
ولأن مصر هبة النيل كما قال هيردوت والنيل يستمد مكانه من قلب القارة الأفريقية لذا كان اهتمام عبد الناصر بأفريقيا كبير فحمل على عاتقه مساعدة الشعوب الأفريقية على التحرر فيقول عبد الناصر في كتابه فلسفة الثورة : (ليس فقط بحكم موقعنا الجغرافي في القارة ولكن بحكم تطلع شعوب القارة إلى مصر لمعاونة هذه الشعوب التي تنشد النور والحضارة في أعماق القارة).
المصاهرة مع القارة السمراء :
بعد تحدي عبد الناصر للقوي الاستعمارية وتأميم شركة قناة السويس وتعرض مصر للعدوان الثلاثي عام ١٩٥٦ أصبح عبد الناصر ملهما للكثير من الزعامات الأفريقية التي تنشد الاستقلال والبناء ومنهم الرئيس الغاني الراحل كوامي نكروما الذي تزعم استقلال غانا عن بريطانيا عام 1957 وتولى بعدها رئاسة الوزراء ثم انتخب أول رئيس للبلاد عام 1960 ثم اعيد انتخابه عام 1965 وهو صاحب مشروع الوحدة الأفريقية والذي تمخض عنه تأسيس منظمة الوحدة الأفريقية بأديس أبابا عام 1963.
خطفت قلب كوامي نكروما عروس من النيل إنها فتحية رزق الفتاة المصرية ابنة حي الزيتون بالقاهرة التي لم يرق لها العمل بالتدريس فعملت بوظيفة بأحد البنوك عام 1957 ويشاء القدر ان يراها نكروما في القاهرة وكان وقتها لا يزال رئيسا للوزراء في بلاده فتقدم للزواج منها لكن والدتها رفضت خشية مغادرتها البلاد معه إلى غانا ولم تتراجع الأم عن موقفها إلا حينما أكد لها الرئيس عبد الناصر أن مصر ستنشئ سفارة بغانا وخط طيران مباشر معها وتم الزواج بالفعل في غانا في ليلة رأس السنة لتصبح فتحية سيدة غانا الأولى.
الطريف أن هذه المصاهرة بين مصر والقارة الأفريقية لم تكن الأولى فقد سبقها محاولة أخرى في عهد عبد الناصر أيضا وكانت من جانب الإمبراطور الإثيوبي هيلاسلاسي للاقتران بجميلة توفيق اندراوس ووالدها هو زعيم وفدي بارز وكان صديق لسعد باشا زغلول وقد رأها الإمبراطور في حفل افتتاح الكاتدرائية المرقصية في العباسية لكنها رفضت هذه الزيجة لخوفها من الإقامة في إثيوبيا التي كانت دون مصر في رحابة العيش والتقدم وقتئذ.
استطاع نكروما تطوير الصناعة و التعليم في بلاده كما استطاعت فتحية أن تحظى بمحبة شعب غانا ولكن سرعان ما تبدلت الأحول حيث واجه نكروما انقلاب عسكري استولى على السلطة أثناء زيارته لفيتنام عام 1966 فلجأ إلى غينيا وقام رئيسها أحمد سيكوتوري بإعطائه منصب رئيس الجمهورية فخريا وكانت غينيا منطلقا لدعوة الشعب الغاني على التمرد على الانقلاب ولكن القدر لم يمهله حيث توفي في رومانيا عام 1972 ثم دفن في غينيا وجرى نقل جثمانه فيما بعد لموطنه غانا.
ولكن ماذا حدث لفتحية؟
فور الانقلاب اتصلت بالرئيس عبد الناصر فجرا لتستنجد به فأرسل طائرة خاصة لأكرا لتقلها وأبنائها للقاهرة واستضافها في قصر الطاهرة لمدة ثلاث شهور حتى استقرت ببيتها في المعادي وبعد هزيمة عام 1967 تبرعت بذهبها للمجهود الحربي انه الوطن حينما يحب أبناءه فيفديه أبنائه بالغالي والنفيس.
توفيت فتحيه بمصر عام 2007 ودفنت إلى جوار قبر زوجها في غانا نزولا على اصرارالرئيس الغاني جون كوفور.
إن ثمار الأرض تُجنى كل موسم، لكن ثمار بناء الإنسان تُجنى كل لحظة .
د. محمد فتحي عبد العال