رأيت الله عشرات، بل مئات المرات وبعدد العمليات الجراحية التي اجريتها، وكانت معظمها جراحات حوادث مثل إصابات السيارات، والطعن بالاسلحة البيضاء، والإصابة بالأعيرة النارية، والهرس البدني الظاهر والغائر سواء في المشاجرات او حوادث السقوط من مرتفع، هذا بخلاف الجراحات المرضية مثل بتر ساق الغرغرينا او استئصال الزائدة الدودية او الطحال او بضعة امتار من الامعاء وغيرها.
القاسم المشترك في كل هذه الحالات هو مسرح الحدث، فهناك البطل الرئيسي في الرواية وهو المريض الذى يوزع الأدوار على فريق العمل، وهو من يحدد إن كنا سنعود لبيوتنا بعد إنتهاء الدوام أم اننا سنبقى لدوام تال قد يمتد لساعات، وهو من يحدد المعازيم .. نعم هناك مدعوون، فقد يأمر جلالة المريض باستدعاء طبيب عناية مركزة، او طبيب أطفال او نساء أو أي تخصص آخر هو بحاجة اليه.
البطل هو من يأمر بتجهيز سريره بعد الجراحة، بل ويخبرك اين النزل سواء في غرفته او في العناية المركزة، وربما يأمر بإخلاء العنابر إلا منه، وأحيانا قد نخلي المستشفى كله لحسابه في حالات الإصابات بالميكروبات اللاهوائية.
تجد اجواء المسرح غالبا معطرة برائحة الدم، والدم البشري له رائحة لا تماثل رائحة الدماء في المخلوقات الأخرى، فهي رائحة تستدعي فيك كل إنسانيتك، وتتوهج فيها ذاكرتك وتخبرك بكل حرف تعلمته في الطب، وتنسى ساعتك ويومك، وتهجرك معدتك، فلا جوع ولا عطش، وتتخشب ساقاك فلا تنميل ولا تقلصات ولا ألم الا بعد ساعات، وينسى مخك النيكوتين والكافيين.
يسيطر عليك إحساس قائد الطائرة بان الخطأ البسيط ربما يغير غير مسار اسرة، فقد تترمل زوجة، او يتيتم ابناء، او يموت حسرة وكمدا شخص يحبه، ينتابك إحساس بأن الله تجاهل إدارة الكون والرقابة عليه إلا منك.
اصعب سؤال خبيث لا تحب ان تسمعه في غرفة العمليات عندما يرفع جراح النساء رأسة ويسأل معاونه:'" الست دى مخلفة قبل كده؟" وعندها يفهم الجميع انه بصدد قرار نزع اهم وظيفة في سن الانجاب باستئصال الرحم مثلا، وهناك مواقف مشابهة قد تجبر الجراح على استئصال كلية او خصية او جزء من عضو.
الأغرب من هذا وذاك انك تفقد نزاهتك المعتادة، فلا تقرف من رائحة انفاس المريض، ولا تتأفف ان تقيأ عليك، ولا تتضايق ان افرغ قولونه على سرير العمليات وتتقهقر قليلا حتى يتم تنظيفه، وما اكثر المرات التي واجهت فيها سيلا من البول مسلطا علي وجهي خاصة في ختان الذكور.
اثناء العمليات الجراحية تنموا الالفة والمحبة مع المريض باتجاه كل المحيطين به بدءا بالجراح ومساعديه، وطبيب التخدير ومعاونه، والتمريض وعمال النظافة ... فتجد بعد ايام يستفسر منك كل شركاؤك عن المريض وكيف حالته في الطرقات او بينما تهم بركوب سيارتك لتغادر العمل، وتشعر كأنه يخصك وحدك.
في غرفة العمليات لا تميز الذكر من الانثى الا بما يخدم العلاج، ولا تدرك الفرق بين حلاوة الوجوه او شح الجمال، ولا يعنيك وظيفتة ولا تكترث لعزوته، فتصبح وكأنك تتعامل مع الله.
بالفعل، هذا هو وصف الله كما اعتدنا رؤيته في غرف العمليات.
د. بهي الدين مرسي