لم يكن هناك من أقوال شائعة خلال الشهور الماضية قدر القول إن أحوال العالم بعد الكورونا لن تكون كما كانت قبلها، سوف تنقلب الدنيا رأسا على عقب، ومن لم يلحقه الموت فإنه سوف يحيا فى عالم عجيب.
انقسم جميع المحللين إلى مدرستين: واحدة ترى انقلابا كذلك الذى شاهده العالم بعد انتهاء الحرب الباردة وزوال الاتحاد السوفيتى؛ وأخرى ترى أنه بعد «الجائحة» سيكون امتدادا لما كان قبلها من تغيير، ربما تتسارع المعدلات، ولكن العالم لن يكون ساكنا، ولا راجعا إلى الخلف. أية مدرسة فيهما يكون لها الفوز تظل معلقة بعنصر الزمن، ولكن المؤرخين سوف يجدون فى الأول من يونيو الجارى نقطة فارقة أعلنتها معظم دول العالم بداية للعودة إلى ما كان معتادا.
وفى العلاقات الدولية فإن ما هو معتاد فى تاريخ الأمم هو حركة «الجغرافيا السياسية» التى تجمع ما فى الجغرافيا من ثوابت، وفى السياسة من متغيرات تجمع ما بين الكمى البطىء والكيفى سريع القفزات. الأسابيع القليلة الماضية شهدت استئنافا متسارعا لهذه الحركة بعضها، وربما أغلبها، منذر، وبعضها الآخر مبشر، وفى أحيان فإن المنذر والمبشر يسيران فى خلطة واحدة.
دوليا استأنف البناء الثلاثى للدول الأعظم الولايات المتحدة والصين وروسيا تحركاتهم، فحاولت الأولى أن تجذب روسيا إلى مجموعة الدول السبعة مرة أخرى (بعد سقوط الاتحاد السوفيتى انضمت روسيا إلى مجموعة الدول السبعة فصارت مجموعة الدول الثمانية، ولكن جرى طردها بعد ضم القرم والاحتكاك الساخن مع أوكرانيا).
الثانية نشطت عالميا بالقدر الذى يجذب دولا أخرى إلى الطاقة الاقتصادية العملاقة لبكين وفى المقدمة منها روسيا، مع سعى لكسب المعركة العلمية والأخلاقية المتعلقة بالفيروس التاجى. خرجت الصين من الأزمة بينما لا تزال الولايات المتحدة غارقة فيها وشروخها السياسية تتكاثر.
والثالثة لا يوجد لديها ميل للذهاب إلى مجموعة لا تزال تقودها الولايات المتحدة، ما لم تحل مشكلتها مع أوكرانيا، وعلاقة دول أوروبا الشرقية بحلف الأطلنطى. قد يكون الاتحاد السوفيتى قد سقط، ولكن الجغرافيا السياسية لروسيا لم تتغير، وشرق أوروبا منطقة أمن قومى روسى. الثلاثة يتحركون عالميا، ولكن الصين هى الأكثر نشاطا وعنفوانا إلى الدرجة التى قامت فيها بالضغط على الهند باستعادة بقايا صراعات قديمة على الحدود الصينية الهندية تتضمن مطالبات بأراض لا يمكن التنازل عنها.
فى الشرق الأوسط تبدو الجغرافيا السياسية فى أكثر حالاتها عنفوانا وعنفا شاملة الإقليم كله؛ وما كان قبل الكورونا ساخنا جاء بعدها بدخان وحريق. ورغم الطغيان الشديد لأخبار «كوفيد- ١٩» على أجهزة الإعلام المحلية والأجنبية، وعلى اهتمامات الشعوب والحكومات والمنظمات الدولية والمراكز البحثية الاستراتيجية، فإن معضلات الجغرافيا السياسية الإقليمية لم تفقد قوة اندفاعها.
وعندما حاولت الأمم المتحدة أن تستغل الفرصة وتدعو إلى وقف القتال فى الصراعات الدولية بما فيها الشرق أوسطية فإنها لم تجد آذانا صاغية اللهم إلا ممن أرادوا هدنة لالتقاط الأنفاس استعدادا لجولات أخرى من القتال. فالأزمة السورية ظلت ملتهبة بين الأطراف الإقليمية المشاركة مثل تركيا وإيران، أو الدولية المتداخلة مثل الولايات المتحدة وروسيا، وما زاد عليها أثناء طغيان «الكورونا» هو أن توترا جرى بين السلطة السورية وروسيا، وبين هذه الأخيرة وإيران، واستخدمت تركيا حالة الأزمة فى نقل مقاتلين إرهابيين إلى غرب ليبيا فاستحكمت أزمتها هى الأخرى فى مواجهة ساخنة نقلت الحرب من غرب ليبيا إلى وسطها.
الأزمة اليمنية رغم الوقف المؤقت لإطلاق النار، فإنه لم يصل إلى هدنة مستدامة، ومع ما جرى انفجر الموقف العسكرى بين الحكومة الشرعية وجماعة الانفصال الجنوبى، وحاولت السعودية رأب الصدع والعودة إلى اتفاقات الرياض. ولا توقفت التحركات الإسرائيلية نحو ضم أراض فلسطينية رغم مناورات تشكيل الوزارة وما بعدها من تفاعلات تدخلت فيها الولايات المتحدة لإنقاذ «صفقة القرن».
ما يهمنا فى هذه الحالة من حركة الجغرافيا السياسية أن إثيوبيا هى الأخرى التى بدأت تحركاتها فى بناء «سد النهضة» أثناء ما سمى «الربيع العربى»؛ والآن بعد عشر سنوات تقريبا، وفى ظل الكورونا هذه المرة، فإنها تحاول تحقيق اختراق فى قضية السد من خلال ملء الخزان الخاص بالسد حتى مع عدم حدوث اتفاق مع الأطراف المعنية حتى الآن.
وكانت آخر التحركات الإثيوبية هى المذكرة التى قدمها وزير خارجية إثيوبيا - جيدو أندارجاشيو- إلى رئيس مجلس الأمن الدولى فى ١٤ مايو المنصرم والتى نقلها المندوب الإثيوبى لدى الأمم المتحدة «تاى أتاسكى- سيلاساى أميدى». هذه المذكرة دفعت مزيدا من التوتر إلى ساحة أزمة سد النهضة مما دفع أطرافا دولية عديدة للتدخل من أجل بعث المفاوضات الثلاثية مرة أخرى لعبت فيها السودان دورا محوريا.
والحقيقة أن تحركات الجغرافيا السياسية لا تتضمن فقط استخدام القوة المسلحة أو التهديد بها، ولكنها تتضمن أيضا النشاط السياسى والدبلوماسى لتحسين الأوضاع وتغيير علاقات القوى النسبية. ومثلما تحركت السودان فى الأزمة الإثيوبية، فإن مصر تحركت فى الأزمة الليبية بإطلاق مبادرة سلام سياسية واسعة بتأييد من أطراف دولية مؤثرة.
إسرائيل على الجانب الآخر حاولت بناء جسر كبير مع الصين من خلال مشروع هائل لتحلية مياه البحر يقدم نموذجا لباقى دول المنطقة للتعاون الكبير مع دولة عالمية صاعدة. هذا الاتفاق عرقلته الولايات المتحدة، ربما على الأقل مؤقتا، ولكنها فى ذات الوقت دفعت فى اتجاه تبادل للسجناء الإيرانيين مع الأمريكيين؛ مع تحريك اتفاق السلام مع أفغانستان بالوساطة بين القوى المتناحرة فى كابول لكى تبدأ المفاوضات مع طالبان. اللغز الكبير فى تحركات الجغرافيا السياسية فى أقاليم العالم المختلفة له علاقة وثيقة بالولايات المتحدة الأمريكية وظروفها الداخلية، وفى مقدمتها الانتخابات الرئاسية الأمريكية التى استقرت على المنافسة بين «دونالد ترامب» الجمهورى و«جو بايدن» الديمقراطى، ومرحلة العنف وعدم الاستقرار بعد مقتل الأمريكى من أصول إفريقية «جورج فلويد».
وخلال هذه المرحلة فإن واشنطن تبدو كما لو كانت مثل «البطة العرجاء» التى تهدئ التوتر مع إيران، وتبنى السلام فى أفغانستان بالانسحاب والمصالحة، ولكنها فى نفس الوقت تسحب عشرة آلاف مقاتل من المسرح الأوروبى بينما تطلب ضم روسيا إلى مجموعة الثمانية كما أسلفنا. ولكنها وسط ذلك كله ترسل مركبة إلى الفضاء الخارجى تصل إلى المحطة الفضائية الدولية ثم تعود إيذانا برحلات تحمل حمولات تكفى لبناء محطة فضائية جديدة على القمر. هل تنقل الولايات المتحدة الصراع والمنافسة من الأرض إلى السماء؟.