السؤال الذي يشغل الكثيرين في مصر اليوم هو "مصر إلي أين؟"
من خلال تواصلي مع عدد كبير من المثقفين والكتاب والمهتمين بالشأن السياسي والوطني في مصر عبر الفيسبوك وغيره أجد أن هذا السؤال هو القاسم المشترك بين كل فئات المجتمع المصري تقريباً، وهذا معناه ضبابية الرؤية أو غيابها تماما، وهو أمر يسبب إحباطاً قد يقرب من اليأس، مما لا تحتمله النفسية الجماعية المصرية اليوم.
غياب أو ضبابية الرؤية هي مسؤلية الدولة، وأهم أولويات القيادة للدولة، أو حتي لشركة أو مؤسسة بها عدد كبير من العاملين، هو وضع رؤية عامة للمستقبل تحدد التوجه الأساسي للدولة أو المؤسسة، بما في ذلك ألهوية الأساسية لها، والأهداف الكبري التي ستعمل علي تحقيقها، والخطة العامة ثم التفصيلية لتحقيق هذه الأهداف.
بدون تحديد هذه الثلاثية، أي ألهوية والأهداف والخطة، تتكون الحالة الضبابية حول الرؤية، ويفقد الفرد والجماعة معاً ركيزة هامة من ركائز الثقة في النفس، وفي القيادة، وفي المستقبل.
الجريمة الارهابية التي حدثت في كنيستنين في طنطا والإسكندرية في وقت واحد دفعت بحالة من الحزن تتسرب إلي الوجدان العام في مصر، ليس لدي الأقباط وحدهم ولكن لدي الكل، وقد لاحظت ذلك في العديد من التعليقات والمناقشات، ولمستها بنفسي في نفسي، وحالة الحزن هذه ترتبط بشكل قوي بحالة ضبابية الرؤية أو غيابها، فأشد الآلام والصدمات يمكن للإنسان تحملها ومواجهتها حين يكون سياقها واضح في منظومة الرؤية ومسيرتها، ولكن وقوع ضربات كهذه في وضع ملتبس وضبابي يمنح الألم والحزن أبعاداً أضخم من حقيقتها، وتصبح الصدمات والضربات معها ذات أبعاد شيطانية غير واقعية وغير طبيعية، وخاصة إذا إستمر توالي هذه الضربات بلا تفسير واضح أو رادع قوي يعيد الثقة في النفس وفي المستقبل.
الوضع الإقتصادي الصعب هو عامل آخر لا يساعد علي بعث الثقة أو التخفيف من حالة الميوعة والضبابية وغياب الرؤية، فليس من الواضح طبيعة التوجه الاقتصادي في مصر، هل ستعمل مصر علي أحياء القطاع الصناعي أم ستكتفي بتركه يموت موطن بطيئاً؟ فإذا لم يكن التصنيع جزءًا من الرؤية فهل الزراعة جزء منها؟ هل السوق الحر هو أساس النظام الاقتصادي المالي؟ أم هو مزيج من الرأسمالية والأشتراكية؟ كل للدولة دور؟ ما هو؟ هل ستحمي المستهلك الفقير أم ستتركه يواجه وحش الأسعار بمفرده؟ ماذا حدث للمؤتمر الإقتصادي الضخم الذي سوقت له الدولة بإعتباره باباً واسعاً نحو المستقبل الواعد؟ لا أحد يشرح للمواطنين أي شيء من هذا كله.
ووسط هذه الحالة من الإلتباس والضبابية والرؤية الغائبة ربما كان من المنطقي أن يسأل قطاع من المواطنين الواعين، لماذا يحكم الرئيس السيسي مصر وحده؟ نعم هو الرئيس المنتخب بشعبية هائلة، ولكن هذا لا يعني أن لا يكون في مصر أحد سوي الرئيس يحمل ثقل ومسؤلية حكم بلد التسعين مليون مواطن، فأنت إذا سألت أي مواطن هو يمكنك أن تذكر أسماء شخصيات مهمة أخري تقف بجانب الرئاسة تحمل أجزاء من المسؤلية في مجالها فستجد عجزاً عن ذكر إسم واحد، فالحكومة غير فاعلة، والمفروض أن يكون حول الرئيس بجانب الحكومة عشرات الشخصيات الكفء من الرجال والنساء، من المسلمين والأقباط، من السياسيين والإقتصاديين والمثقفين، لديهم حرية التفكير والمشاركة والإبداع لكي تنهض مصر في كافة المجالات بسرعة وبعناية ومقدرة، فمصر أكبر من طاقة أي فرد ولو كان هرقل أو سوبرمان أن يحكمها بمفرده.
حتي جمال عبد الناصر لم يحكم مصر العشرين مليون وقتها وحده، كان معه 12 أعضاء مجلس ثورة منهم من كان له انجازات كبيرة، وحكومات من شخصيات كبيرة وقديرة مثل محمود فوزي، محمود رياض، عبد المنعم القيسوني، عزيز صدقي، ثروت عكاشة، محمد حسنين هيكل، كمال رمزي استينو، حكمت أبو زيد أول وزيرة مصرية، وغيرهم العشرات بل المئات، نسأل اليوم من يحمل عبء حكم مصر التسعين مليون بجانب الرئيس السيسي؟ فلا نستطيع ذكر شخصية واحدة، والسؤال هل لماذا؟
محاربة الإرهاب
الجيش والشرطة تحارب الإرهاب والشعب يتفرج وينتقد وكأنها حرب في وطن آخر، كل حروب مصر السابقة، من 56 إلي 73 كان يصاحبها إستنفار للشعب لكي يستعد معنوياً ونفسياً ومادياً للحرب وما تجلبه من أخطار وأضرار وربما هزيمة ربما نصر، ولكن اليوم لا أري هذا الإستنفار ولا توجد حملة معنوية تستنهض الشعب لكي يشارك في حرب مع الإرهاب لن تكون سهلة أو قصيرة
لا تستطيع شرطة ولا جيش محاربة الإرهاب بدون تجييش واستنفار شعبي، وهو ما لم يحدث
الفكر الاخواني والسلفي الوهابي منذ السبعينات ينشر أفكاره البدائية في مصر، الشعراوي بدأ المسيرة بمهاجمة المسيحية وإهانة الأقباط وتسفيه فكرة الوطن ذاتها وكان الإعلام يطرب له ويذيع أفكاره المتطرفة يومياً بمباركة السادات ثم مبارك، وماتزال حلقاته المخدرة للعقول تذاع حتي اليوم، قال علنا في لقاء مع البابا شنودة "نعمل إيه بالوطن" وسجد شكراً لله لهزيمة 67, ولم يقم رئيس مصري واحد منذ السادات وحتي اليوم بالتصدي لأفكار الإخوان والسلفية البدائية في مصر رغم كل ما فعلته في تمزيق الوحدة الوطنية والتنكيل بالأقباط ومسخ الشخصية المصرية وتحويل مصر إلي شبه دولة وقبيلة تمارس جلسات المصاطب العرفية والتهجير للمواطنين والتواطؤ مع الفكر الإرهابي مع التظاهر أمام العالم بمحاربة الارهاب، لعبة خطرة تهدد أمن مصر القومي وليس الأقباط فقط، لا سلام ولا أمن لمصر في التعايش مع الفكر الاخواني السلفي المعادي لفكرة الوطن وشركاء الوطن
التعازي من الرئاسة والحكومةللأقباط كلما تعرضوا لحوداث إرهابية لا تكفي، نريد خطوات عملية ضد الفكر الارهابي:
1- تطبيق القانون بحسم علي كل مجرم يقتل أو يهجر مع إلغاء الجلسات العرفية وبيت العائلة، مصر دولة وليست قبيلة
2- لا بد أن يسارع الرئيس إلي التواجد الفوري العلني مع أسر الضحايا والتصريح الواضح برفض الإعتداءات وخطوات مواجهتها
3- الرئيس والحكومة والإعلام يوضحون بالتفصيل فساد الفكر الرافض للآخر والمحرض علي شركاء الوطن
4- إحياء فكرة المواطنة وشعار "ألدين لله والوطن للجميع"
5- تكوين لجنة فورية لتنقية مناهج التعليم من فكر الإستعلاء الديني وإدخال تاريخ المرحلة القبطية خلال ثلاثة أشهر
6- تعيين عدداً من المحافظين الأقباط في تطبيق عملي لحماية الدولة لحقوق المواطنة للأقباط واشراكهم عمليا في إدارة الدولة
7- تعيين عدداً من المستشارين للرئاسة منهم أقباط فليس من المعقول أن يحكم شخص بمفرده وطناً بحجم مصر
8- العودة إلي تقليد إختيار شخصيات قبطية لعدد من الوزارات الهامة كما كان في الماضي
9- تقوية الخطاب العلماني المدني في الإعلام والدولة ومحاربة الخطاب الديني المتشدد في كل مكان
10- إسناد مهمة الثورة الدينية الفكرية إلي هيئة أو أكثر من الهيئات الثقافية والفكرية خارج الأزهر
التعازي وحدها لا تكفي، فإن لم تتخذ مثل هذه الخطوات وبسرعة فلابد أن نستنتج أن الدولة غير جادة في حماية المواطنين والمواطنة
الخراب الحالي للشرق العربي
مع أسباب أخري جانبية فإن السبب الأساس في الخراب الحالي للشرق العربي هو صعود التيار الديني لدي الشيعة - الثورة الاسلامية في إيران - والسنة - اخوان وسلفيين وهابيين - لأكثر من ثلث قرن، واندلاع الصراع المذهبي المسلح بينهما وتحقيق إيران لمساحة متزايدة من النفوذ في بلاد ألسنة العربية، التشدد الديني إذن سواء سني أم شيعي هو سبب تدمير الدولة الوطنية القومية المدنية التي حاول العرب تأسيسها، ورغم فشل تلك المحاولات ورغم خطايا وأخطاء وجرائم التيارات القومية والثورية والرجعية في الجمهوريات والممالك العربية فقد كانت البلاد مستقرة وكان التقدم يحدث ولو بطيئاً نحو دولة أكثر عصرية، ويجب أن يكون واضحاً الآن أن التيار الديني هو الأخطر بكثير والأعظم تدميراً لأنه ضد الدولة أصلاً وضد مفهوم الوطن لصالح وهم الخلافة الإسلامية البائدة
المفروض إذن أن يكون طريق الخروج من مستنقع الخراب الحالي هو ثورة سياسية ثقافية تعلن بقوة الدولة المدنية وتؤسس لآلياتها وتشحذ الشعوب نحوها مبينة مزاياها وملامحها وأسباب اللجوء إليها للتخلص من خراب الدولة الدينية والانضمام إلي العالم الحديث ودوله العصرية التي يقر بتفوقها الجميع بدليل فرارهم جميعاً إلي الغرب المدني العلماني في الأوقات الحرجة. الإسلام هو الحل كان شعار الاخوان وبه قاموا بدروشة المجتمع وتحجيب وتنقيب المرأة المصرية والسورية وغيرها وبه وصلت الدول العربية إلي خرابها الحالي، ولا خلاص سوي في شعار "الدولة المدنية هي الحل" وأركانها هي فصل الدين عن السياسة و تحرير الساحة الوطنية العامة من كافة مظاهر التجارة الدينية واعتماد العلم والقانون والتعليم آليات أساسية والإقتصاد القوي قوة ضرورية دافعة نحو المجتمع العصري المطلوب.