*"إن الأدب الأوغاريتي سد الثغرة بين هوميروس والكتاب المقدس"
*Cyrus H.Gordon
ما أكثر ماسطر الأقدمون من صفحات تحكي عن الأساطير.. لكل أسطورة فصول وتفصيلات واجتهادات وخلافات. وإذا كان التاريخ يقف عند حدود الزمان والمكان، فإن الأسطورة تتجاوز هذه الحدود لتصل بين الحلم والواقع!..
أسطورة أدونيس Adonis
(أدون) هو إله الخصب وتجدد الطبيعة الكنعني، وخاصة في مدينة جبيل Byblus وكلمة (أدون) تعني (رب أو سيد) وقد أقتبسها الأغريق فصارت )أدونيس Adonis).
في القرن الخامس قبل الميلاد، دخلت اسطورته وعبادته الى بلاد اليونان. وقد أطلق عليه الكنعانيون لقب (النعمان) أي الناعم الجميل!..
تذكر أسطورة أدونيس قصته، مع حبيبته (عشتار Astart) سيدة جبيل والتي تدور حوادثها، بين مدينة جبيل ومغارة (أفقا) حيث ينبع نهر أدونيس، المعروف اليوم باسم نهر ابراهيم وقد زار (لوكيان السميساطي) معبد أدونيس في مدينة جبيل نحو عام (148م) ووصف الطقوس الدينية، المتبعة فيه، في كتابه عن (الآلهة السورية).
وحسب رواية أوفيد Ovid وهو شاعر روماني (43 ق.م – 17م):
"كان أدونيس شاباً جميلاً. وهو ابن الملك السوري (ميتاس) وكان تجسيداً لجمال الشباب، وللخصب وربيع الحياة.. كان مولعاً بالصيد فيخرج ويسير الى منطقة عالية، قريبة من جبيل، حيث تقع مغارة (أفقا) على ارتفاع (1100 م) عن سطح البحر. والتي يصفها عالم الآثار الفرنسي (رينان A.Renan) بقوله: "إنها أجمل مكان في العالم"!..
وفي رحلات الصيد، كان يلتقي مع (عشتار) إلهة الحب والجمال، وهي التي إخترقت سهامها، قلوب البشر والآلهة على حد سواء.
ولكم بادلته الهوى. وتبعته في الغابات وهي تلبس ثياب الصيد!..
خرج أدونيس مرة لوحده يصطاد، ولم ترافقه عشتار، فحاصرت كلابه خنزيراً برياً.. أخذ أدونيس رمحه، ورماه به فجرحه، ولم يصب منه مقتلاً. هاج الخنزير الجريح، وهجم على أدونيس، وأصابه بجراح بالغة. فسقط على الأرض. وهو ينزف دماً، وأنينه يتصاعد، حتى بلغ مسامع عشتار!..
نزلت عشتار اليه من السماء ملهوفة، ورأت دمه ينزف بغزارة، وأخذت روحه تخرج مع أنفاسه المتسارعه. فضمته وقبلته. وكانت مياه النهر قد تخضبت بدمه، ورحل الى العالم السفلي!..
حاولت عشتار أن ترجعه، لكن جماله وشبابه، فتن ملكة الجحيم "برسيفوني" فرفضت تسليمه. ولما رفعت القضية الى كبير الآلهة. قضى بأن يبقى أدونيس، طيلة الخريف والشتاء بصحبة "برسيفوني Persephone" ويعود في كل ربيع وصيف الى صحبة ملكة الحب والجمال.
ومع بدء كل خريف كانت مياه نهر ادونيس تتخضب باللون الأحمر، لون دم أودونيس. ومع إطلالة كل ربيع ومع عودته إلى الأرض، كانت تتفتح أزهار حمراء.. إنها أزهار (شقائق النعمان) التي تبشر بعودته حاملاً معه الخصب والتجديد!..
إن اسم "النعمان" مازال قائماً الى يومنا هذا. متضمناً اسم تلك الوردة البرية القانية اللون، مع بشائر الربيع الأولى. يدعوها العرب "شقائق النعمان" أي "جراح النعمان" وتدعى في اللغة الانكليزية "أنيمون Anemon".
وقد أشار بعض الباحثين، الى أن هناك صلة بين كلمة "عدن" و "أدون" وان كلمة "عدن" ربما تكون تحويراً بسيطاً لكلمة "أدون" وجنات عدن، أو جنات أدونيس تذكرنا بـ "جنات النعيم" وهنا نستطيع أن نلمح تشابهاً بين كلمة "النعيم" وكلمة "النعمان"!..
وتقدم شخصية (مار جاورجيوس) معناه باليونانية: "الحارث أو الزارع في التراث المسيحي ، وشخصية "الخضير" في التراث الشعبي الاسلامي، نموذجاً عن الخيال الشعبي. الذي يعطي الرموز القديمة شحنة عاطفية، تجعلها مستمرة، عبر الشروط المتبدلة!.. وهكذا استمر "أدونيس" أو "تموز" الخضر، حياً في الثقافة المسيحية والاسلامية، الى يومنا هذا. وقد بقيت ذكرى أعياد الربيع قائمة حتى الآن في الشرق الأدنى، وذلك في عيد النيروز "الزهورية في الساحل السوري" وعيد (شم النسيم) في مصر، وأعياد أخرى محلية في سوريا.
من أغاني عشتار لحبيبها أدونيس:
بعد أن اجتازت عشتار الحواجز السبعة، على صوت قيثارة حبيبها، الذي عاد معها الى السماء:
"كالشجرة على ثمرتها. هكذا وجهي يظلل وجهك
في الليل أعطيك غطاءك
وفي النهار رداءك
لاتخف.. لاتخف أيها العصفور الذي ربيته!..
أسطورة الأميرة اوروبا Europa
كان في قديم الزمان في أرض كنعان، ملك ذو عزة وسلطان، يقال له "أجينور Agenor" وأمه هي "ليبيا Lybia" التي أعطت قارة افريقيا اسمها أولاً. وزوجته هي "صور" ومعناها "الصخرة".. حورية من حوريات الماء. بنى على الشاطئ مدينة، سماها باسمها، وجعلها عاصمة لملكة!..
ولدت هذه الملكة للملك اولاداً كثيرين، فيهم "قدموس Cadmus" القوي الشجاع و "أوروبا Europa" الفتاة البهية الطلعة كالصباح.
وقد حكى هذه الأسطورة، شاعر من مدينة الاسكندرية هو "موسيخوس" (القرن 2م) .
كما قصها الشاعر الروماني "أوفيد Ovid" في كتابه: "التحولات Metamorphoses" في القرن الأول قبل الميلاد. ويعتبر كثير من الباحثين، أسطورة أوروبا، قصة رائعة من عيون الأدب العالمي، فمن هي أوروبا وماهي قصتها؟!..
في صيحة أحد الأيام الربيعية الجميلة، أفاقت لصبية "أوروبا" باكراً، ونادت صديقاتها. وخرجت الصبايا في نزهة بين المروج، ليس بعيداً عن شاطئ لبحر، يجمعن الزهور.. وكانت كل فتاة منهن، آية بين البنات، ولكن أجملهن "أوروبا" وكأنها "عشتار" في فتنتها.
وفي الأعالي كان "زيوس Zeus" كبير آلهة الأغريق، يستلقي متكاسلاً. يرقب مايجري على الأرض. وما أن رأى الصبايا يخطرن على المروج الخضراء. ولمح فتنة "أوروبا" وسحرها، حتى أحبها... وبسرعة نزل الى الأرض، وتقمص شكل ثور كستنائي اللون. وبدأ وديعاً لطيفاً، لم تخشه الصبايا، بل تجمعن حوله يداعبنه.. اقتربن "أوروبا" من الثور فانحنى أمامها، واعتلت ظهره العريض. ونادت رفيقاتها. لكن الثور نهض فجأة، وقفز بها نحو البحر، ثم أخذ يركض فوق الماء. وخرجت جماعة من آلهة البحر، تركب الدلافين، وتصوت بالأبواق، يقودهم "بوسيدون Poseidon" إله البحر، وشقيق زيوس!..
ذهب "زيوس" بأوروبا، الى جزيرة "كريت crete" في بلاد اليونان. ولما وصلا قفز الثور الى اليابسة، وعاد الى طبيعته، والتقى الحراس والأعيان في حفل زفاف زيوس وأوروبا..
وقد أنجبت أوروبا من زيوس اولاداً، أشهرهم هو "مينوس Minos" وأطلقت أسمها على قارة بكاملها هي أوروبا Europa.
أسطورة قدموس Cadmus
بعد إختطاف "أوروبا" راح أخوها "قدموس" يضرب في أرجاء العالم باحثاً عن أخته. ومضى بعيداً عن بلاده، حتى وصل الى بلاد اليونان. واسم "قدموس" يعني في اللغة اليونانية "القاهر أو المظفر" ويبدو أن اسم "قدموس" كنعاني، مشتق من "قادم" ومعناها "الآتى" أى الآتي من الشرق!..
وقدموس عند علماء الميثولوجيا، هو رمز تأثير حضارة الكنعانيين –الفينيقيين" وثقافتهم في حضارة الأغريق وثقافتهم. وإليه يعزى نشر العمران في تلك الأصقاع. مثل فنون بناء المدن والفلاحة، واستثمار المناجم والمعادن. ونقل الحروف الأبجدية الى اليونان..
وقد ذكر المؤرخ "هيرودوت Herodotas" في كتابه الأول:
"أن قدموس هو الذي بنى مدينة (طيبة Thebes" أقدم مدن اليونان والتي كانت قلعتها تحمل اسم "كادميا Cadmia" نسبة الى بانيها قدموس. ومن المعروف أن في سوريا بلدة تدعى "قدموس" الى الشرق من مدينة بانياس على الساحل السوري.
ولو عدنا الى هيرودوت )484- 425 ق.م) فإننا نقرأ في الكتاب الخامس، فقرة (58) حرفياً مايلي:
"والفينيقيون الذين صحبوا قدموس.. أدخلوا في غريقيا، مدة إقامتهم في تلك البلاد، عدة معارف ومن جملتها الحروف التي كانت على رأيي مجهولة سابقاً في تلك البلاد" وقد أيد هذا الكلام المؤرخان ديودوروس الصقلي Diodorus (90* 30 ق.م) وبلايني Pliny (23- 79م).
أسطورة اليسار Elissa
كانت مدينة صور Tyre مدينة هامة جداً على الساحل السوري كما كانت سيدة البحار والتجارة البحرية. وصفها حزقيال النبي Ezeciel (القرن 7 ق.م) وبين ماكانت عليه من العظمه والجمال وسعة الغنى، والقوة البحرية، وسماها تاجرة الشعوب في جزائر كثيرة. (حزقيال: اصحاح 27).
كان في ذلك الزمان على هذه المدينة العظيمة، ملك يقال له "بيلوس" ولم يكن له إلا ولدان "بيجماليون Pygmalion" و "إليسا أو اليسار Elissa" ولم يلبث هذا الملك أن توفي. فولى الشعب مكانه ابنه بيجماليون )820 – 774 ق.م) الذي لم يحقق أمل الشعب بالعدل والرفاه.
وقد تخلص من صهره زوج اليسار، بمؤامرة دنيئة. وعاشت اليسار مدة من الزمن، غير عالمة بقاتل زوجها، الى أن قرر أخوها اغتيالها أيضاً!..
وذات ليلة، كانت اليسار راقدة، ظهر لها شبح زوجها، وأعلمها بما فعل أخوها، وبنواياه السيئة تجاهها، ثم نصحها بأن تهرب من صور، وتترك أرضها الى الأبد. وأن تبنى مدينة على الشاطئ الأفريقي الشمالي.
ثم دلها على مكان دفن كنوزه. وأمرها أن تحمل معها هذه الكنوز، لتكون عوناً لها، ثم توارى عنها.. إستفاقت اليسار، مذعورة مما رأت، وعزمن على تنفيذ وصية زوجها، فاستخرجت الكنوز، وتهيأت للفرار، مع أصحاب زوجها، وأرسلت من يجوس الميناء. ورحلت سراً. وألقت السفن مراسيها في جزيرة قبرص أولاً. وأمرت بأختطاف ثمانين امرأة، لتزوجهن بحارتها الثمانين!..
تابع البحارة ومعهم أليسار سيرهم في البحر، حتى ألقت بهم الأقدار على الشاطئ الأفريقي (قرب مدينة تونس حالياً) حيث بنى بحارتها معبداً للاله (بعل Bual) ومدينة عظيمة هي (قرطاجة Carthage) وكان ذلك حوالي عام (854 ق.م).
ومالبث القرطاجيون بعد ملكتهم، يرقون فى معارج القوة والثروة والمجد، وأقاموا لذكرى ملكتهم المحبوبة، موسماً في كل عام، يمجدون فيه الأميرة الكنعانية بانية قرطاجة مهد القائد العظيم (هانيبال Hannibal (247 – 184 ق.م) الذى قهر روما، وقهرته الأقدار.. ولنا عودة الى هذا الموضوع!..
ويعتبر بعض المؤرخين أن (أليسار) شخصية اسطورية، ولدتها مخيلة الشعب الكنعاني. بينما يراها آخرون شخصية حقيقية، غامرت مغامرة جريئة . وبنت مدينة قرطاج، التي توسع نفوذها وتجارتها في سواحل غرب المتوسط، وتحدت جبروت روما.
وصف النبي حزقيال لمدينة صور:
"ياصور.. أنت قلت انا كاملة الجمال. تخومك في قلب البحار. بناؤوك تمموا جمالك. عملوا كل ألواحك من سرو سنير، أخذوا أرزاً من لبنان، ليصنعوه لك سواري. صنعوا من بلوط باشان مجاذيفك، كتان مطرز من مصر هو شراعك، ليكون لك راية..
أهل صيدون وأرواد كانوا ملاحيك. حكماؤك ياصور كانوا فيك هم ربابينك.. بنو أرواد مع جيشك. على الأسوار من حولك.. هم تمموا جمالك.. آرام تاجرتك بكثرة صناعتك!..
(حزقيال : الاصحاح 27)