إدوارد فيلبس جرجس يكتب: هزيمة يونيو .. نصر اكتوبر

إدوارد فيلبس جرجس يكتب: هزيمة يونيو .. نصر اكتوبر
إدوارد فيلبس جرجس يكتب: هزيمة يونيو .. نصر اكتوبر

متضادان ، شتان بين الهزيمة والنصر ، وأكرر مقولتي التي أكتبها كثيرا  " لولا هزيمة يونيو ما كنا احتجنا إلى حرب أكتوبر " ، نحن انتصرنا على هزيمة لم نكن بحاجة إليها في ذلك الوقت أو بمعنى آخر كان لا يجب أن تحدث !!! .

سيقول البعض ولماذا تعيد إلينا الأحزان في وقت يجب أن تعم فيه الأفراح ، نعم يجب أن نفرح بأن علم بلادنا لا يزال يرفرف فوق كامل الوطن ، وكان من الممكن أن يكون حتى الآن كلمة منقوصة بمقدار ما احتلته إسرائيل ، أيضا في نفس الوقت لا يجب أن ننسى الماضى حتى لا يتكرر في الحاضر ، قد يكون ليس بنفس صورة يونيو 67 ، لكن ممكن أن يكون بطريقة أخرى أفدح وفي أي مجال ، فالهزيمة أشكالها  كثيرة ، وأيضا حتى لو أردنا نحن أن ننساها أونتناساها فالتاريخ لن يهملها ، وسيقرأها أولادنا في التاريخ ويسألون ويتساءلون لماذا قصرنا نحن عن الكتابة .
يجب أن نعترف بأخطاء الماضي دون خجل أو من أجل رئيس لا يزال البعض يمجده ، فنحن البلد الوحيد في العالم الذي تجد فيه الناصري والساداتي وحتى مبارك ولا يشذ مرسي ، تعصب للرؤساء وكأن الوطن ملعب كرة .
يجب أن تعرف الأجيال القادمة الحقيقة وكم قاست أجيالنا بسبب السياسات الخاطئة لرؤساء تباروا في أن يتركوا الوطن وقد شد أحزمة الفقر حوله .
لقد بدت الحقائق المريرة بعد يونيو 67 تظهر فورا ، فمع نهاية 67 وبداية عام 68 تغيرت أحوال كثيرة وتبدلت ، ولا أحد يريد أن يقر بالواقع المرير ، تحولت الهزيمة الثقيلة والمريرة بعد أن أجريت لها عملية " تجميل سياسي " إلى ما تسمى بالنكسة ، هذا هو ما دأبنا عليه " عدم الأعتراف بالحقيقة " ، لا أحد يريد أن يعترف بأن حرب 48 كانت هزيمة ، ولا حرب 56 كانت هزيمة ، أو من باب تأدب القلم فقط سنقول " شبه هزيمة " ولولا تدخل أمريكا في الوقت المناسب لتمكن الاستعمار من وضع قدمه ثانية ، قدم ثقيلة لاستعمار ثلاثي من انجتلرا وفرنسا وإسرائيل ، النصر كان مجرد كلمات على ورق لكُتاب السلطة في صحف السلطة التي لم يكن غيرها في ذلك الوقت ، ومجموعة من الأغاني الحماسية تغنى بها البعض مدفوعا بالخوف من عدم المشاركة أو حفاظاً على استمراريته ، هذا هو نصر 56 .
للأسف لم تكن هناك العين الثاقبة ، أو الرأي الجرئ الذي ينبه أن الجيش وقادته لم يكونوا في مستوى المسئولية ، وربما كانت العين الثاقبة موجودة ، لكنها آثرت ألا ترى ، والرأي الجرئ كان حاضرا لكنه احتبس بالحنجرة ، فعدم الرؤية والإصابة بالبكم أفضل من التنكيل والبطش بأيدي لا ترحم ، وأذان لا تريد أن تسمع سوى ما تريد سمعه ، وعقول تجمدت عند نقطة الانتقام بلا سبب ، وقلوب ممتلئة بالأحقاد .
التاريخ يقول أن من كان يرفع صوته بالحق الذي يتنافى مع أكاذيب وتضليل السلطة ، يندم على اليوم الذي ولدته فيه أمه ، بل قد يصل به الكفر أن يسب الحياة وما عليها . التي كانت سببا في وقوعه بين أيدي تجمعت فيها العاهات والأمراض النفسية ، فتلذذت برؤية الدم وسماع صرخات العذاب لبشر كان كل ذنبهم أن أعينهم رأت أكثر مما تأمر به السلطة ، أو علا همسهم لدرجة غير مسموح بها .
الصداقة والمجاملات التي جمعت بين رؤوس السلطة العليا دون النظر إلى مصلحة البلد أدت في النهاية لألاف القبور لجنود مساكين لا يعرفون سوى الطاعة العمياء لقادة لم يتعلموا من الدروس العسكرية سوى كيف يؤدون التحية للرتب الأعلى ، جنود حُكم عليهم بالموت الباطل ، البعض كان سعيد الحظ ووجد من يواريه التراب ، والبعض الآخر أُطلق عليهم " المفقودون " ليعيش ذووهم على أمل باطل ولم يعودوا حتى هذه اللحظة ، أي عقول هذه التي دون خجل حولت هزيمة في حجم الجبل إلى كلمة لا تمضغ ولا تبتلع أسمها " نكسة " ، أي نكسة هذه التي حولت طائرات السلاح الجوي لجثث هامدة قبل أن ينطلق هدير محرك واحدة منها  ، أي نكسة التي تتخبط فيها القرارات ابتداء من قائد الجيش حتى أصغر ضابط ، وجنود تبعثروا في كل اتجاه لم يتعلموا حتى كيف يحددون الجهات الأصلية حتى يتمكنوا من العودة . لم يسمع أحد عبر التاريخ أن جيشً بأكمله أُخذ على غرة ، فتبارى قادته في سباق للعدو للخلف .
ضاع الجميع وضاعت مصر في ظلام ما بعد هزيمة 67 . الكلمات كلها تنعي المصيبة التي حطت على شعب كان ينتظر العسل الذي وعدوا به ، لكن جرار العسل انسكبت ولم تبق سوى جرار المر والصبر ، شعب مسكين وطيب ، حاول أن ينسى مصيبته بإطلاق النكات والقفشات على هؤلاء الذين تسببوا في الويلات . مدن بأكملها هجرت ، مدن القناة " الإسماعيلية والسويس وبورسعيد "  ، كما يقولون موت وخراب ديار ، مدن بأكملها خُرِبت وصدرت الأموامر بتهجيرها وتشرد سكانها وكم حدث خلف هذا التهجير الذي دفع إلى الانحرافات من أجل لقمة العيش . إنني أركز على الهزيمة التي قصمت ظهر الشعب وحتى الآن نعاني منها على الأقل كإقتصاد ، ففي بلادنا كل أخطاء الرؤساء والمسئولين في النهاية تحط على رأس الشعب ، أحمد الله إنني لم أكن أخدم بالقوات المسلحة في ذلك الوقت ، لكنني انضممت إليها كضابط احتياط ضمن المؤهلات العليا الذين جندوا جميعا عقب الهزيمة " كنصيحة روسيا لعبد الناصر في ذلك الوقت "  من أجل إعادة الكرامة إلى وطن أوجع النظام كرامته بإغفال ما يجب أن يكون من أجل الوصول إلى الزعامة وترك أهل الثقة " كما كان يطلق عليهم " تولي أمور البلد ، لكن أهل الثقة لم يسمعوا عن الثقة بمقدار حبة خردل ، والتفتوا إلى ما لا يجب ذكره ، وقد يكون تعبير " إلي ما لا يجب ذكره " يفضح الأمور أكثر مما كنت تناولتها بالتفصيل .
دعونا ننتقل إلى نصر أكتوبر ، وما النصر إلا من عند الله ، ونصر أكتوبر أقسم أنه من عند الله ، كثيراً ما أسأل نفسي سؤال أخشى أن أجاهر به ، لو طال أمد حرب أكتوبر بضعة أيام  ما الذي كان سيحدث ؟ أحياناً أغمض عيني وأتخيل ، لكن سرعان ما أفتحهما وأنفض عن رأسي أفكاره البشعة وأردد الحمد لله.. الحمد لله لأن الأمور انتهت على خير ، كلما تذكرت الثغرة أشعر بقشعريرة في جسدي ، كلما أتذكر مشورة هذا القائد الجالس في برجه العاجي ، الذي يريد إبادة القوات الموجودة هناك سواء كانوا من العدو أو المصريين ، أشعر بمدى الهزل الذي يمكن أن يصل إليه عقول بعض القادة .
آلاف مؤلفة من قوات الجيش المصري في الثغرة يريد إفنائهم بيد إخوتهم من الجيش ، أسأل نفسي هل لو كان ابنه ضمن هذه القوات كان سيطاوعه لسانه ويقدم مشورته الهزلية . في جيوش الغرب يبكون على جندي واحد ، والقائد المسئول يريد أن يفني بيديه آلافا من أبناء الوطن ، نعم نضحي بأنفسنا من أجل الوطن، لكن في الحرب يجب أن تعمل عقول القادة للحفاظ قدر ما يمكن على أرواح الجنود ، الحل السلمي كان موجوداً ، لكن القائد الهمام يعرض مشورته العسكرية وكأنه سيقضي على آلاف مؤلفة من الذباب وليس من جنود الوطن ، وعندما رُفضت فكرته ، ركبته العنجهية واعتبرها كخيانة وطنية  ، تفكير عقيم لو نفذ بالفعل لأودى بحياة آلاف الجنود. وبالرغم من هذه الثغرة انتصرنا ، أنا لا أريد أن أقلل من شأن النصر ، فعبور قواتنا لخط بارليف سنتباهى به دائماً ، لكن يجب أن نكون أمناءاً مع أنفسنا دائماً، النجاح في أي شيء يتطلب أمانة النفس ، والأمانة  تحتم أن نسجل للتاريخ الحقيقة بحذافيرها  ، وللأمانة أيضاً يجب أن نقول أن  هذا الانتصار  قام على أكتاف الجنود المجندين والاحتياط وضباط الاحتياط ولكن لا أحد يذكر هذا ، بعد هزيمة يونيو جند الجميع من ذوي الشهادات العليا أو المتوسطة أو الذين لم ينالوا قسطاً من التعليم ، وكان للمؤهلون علمياً دورهم البارز .
لكن للأسف بعد أن أمضوا في الجيش سنوات طويلة وأدوا واجبهم على أكمل وجه وتم تسريحهم من الخدمة ، انتهى كل شيء بالنسبة لهم ، وكأنهم لم يكونوا أعمدة للعبور ، إنني أذكر هذا للتاريخ ، هؤلاء الجنود أمضوا في الجيش سنوات طويلة ، ولم يسرحوا إلا بعد انتهاء الحرب، وعادوا يلهثون وراء وظائفهم التي لا تسد رمق ولا تغني عن جوع ، والامتياز كل الامتياز للعاملين بالقوات المسلحة حتى الذين لم ينضموا إلى صفوفها إلا بعد حرب أكتوبر ، إذا كان الوطن نسى لأبنائه تضحياتهم فالله لن ينساها ، ولن ينسى آلاف الشهداء الذين جندوا ولم يعودوا لديارهم . هذه أحد مساوئ قواتنا المسلحة في ذلك الوقت  ، وقد تكون أحد الأسباب الرئيسية التي تسببت في هزيمة 67 ، حيث كان ينظر للجندي ويعامل أسوأ معاملة إنسانياً ومعيشياً . لم يزرعوا فيهم عزة النفس ، لكن كان كل الهدف من فترة التجنيد إخضاعهم خضوع العبيد ، ومن هنا يُقتل الولاء لأي انتماء .
نعم انتصرنا في السادس من أكتوبر عام 1973 ، استرددنا بعض الأرض والباقي لم يسترد إلا بالحل السياسي الذي حاربه العرب في ذلك ، بكل عنجهيتهم الكاذبة ثاروا وكأننا ارتكبنا شيئا مخلاً للشرف ، بالرغم أنه الحل الذي أعاد لنا كل أرضنا بكل شرف ، ولولا نعرتهم الكاذبة في ذلك الوقت كان يمكن أن تحل مشكلة القضية الفلسطينية أيضا ، التي حتى الآن يطأطون الرؤوس أمامها ولا أعتقد أنه سترتفع لأن النية نحو حل بأي طريق ليست موجودة ، وقد ابتلعهم الخوف على مصالحهم ونفطهم ، وأثبت الزمن أن الحل السياسي كان فرصة لا تعوض  . لمن أكتب كلمات هذا المقال بالطبع ليس لنفسي ، لكن في المقدمة لأبناء المهجر كمعلومات وتاريخ يجب أن يعرفوه بكل الحقائق الحلوة والمرة ، والتي الكثير منها تغفل اليوم بقصد أو بغير قصد ، ومهما حاولوا طمسها أو إغفالها لأن دهاليز السياسة السياسة في البلاد النامية معتمة ، لا بد أن تتكشف الحقائق  المثيرة إن لم يكن الآن فغدا أو بعد غد ، ستتكشف حقائق أكثر عن هزيمة يونيو وكيف تسببت الأوضاع الخاطئة في ذلك الوقت لحدوث هذه النكبة بكل ما تحمله من معنى ، وحقائق أكثر عن نصر اكتوبر ودور السياسة فيه قبل وبعد الحرب ، ستتكشف بعض الحقائق المخزية التي لا تستطيع أن تواجه النور. مات عبد الناصر بعد انتهاء المؤتمر الذي جمع فيه الرؤساء العرب لوقف حمامات الدم التي راح ضحيتها الفلسطينيين في الأردن ، وخرجت الملايين تودع عبد الناصر ، الكل أحبه لشخصيته ، حتى الذين كرهوا سياسته التي ادخلتنا في متاهات هزيمة يونيو بكوه ، ثم بعد هذه السنوات الطويلة ، تخرج ابنته متهمة الرئيس الذي تولى الحكم بعده بأنه هو الذي قتله ، وأن عبد الناصر لم يمت موتاً طبيعياً ، أين الحقيقة ؟ لا نعلم ، وقد تتكشف يوماً ما ، أيضاً حتى الآن يقولون أن قائد جيش هزيمة عام 67 انتحر ، البعض يردد أن الرئيس هو الذي أوصى بقتله " بالرغم من أنه كان من أهل الثقة  ، أين الحقيقة؟ لا نعلم ، وقد تتكشف يوماً ما ، كل كلمة أكتبها الآن فهي لها قياسها لأنها أدت إلى اختلال الكثير من الأوضاع التي أوصلت البلد إلى هذه الدرجة من الضحالة في كل الميادين .
ولهذا عندما يأتي الحديث بعد كل هذا عن ثورة 30 يونيو فأعتقد أن اللهجة والإسلوب لا بد أن يتغير ، ليس إجبارا ، لكن الأحداث هتى التي تضع العنوانين والمانشيتات عن زمن أوصل مصر إلى حزام الفقر ، وزمن يبدأ في تعديل المسار المنحرف ، ومحاولة جادة لردم كل خطيئة وخطايا فترات الحكم السابقة . إن ما توارثناه من هذه الفترات تركة ثقيلة أوصلتنا إلى متاهات ، كل متاهة منها ، لا يعلم إلى الله نهايتها ، وقد يكون ما حدث بعد يناير 2011 والتي يسمونها ثورة وهي قد تضارع هزيمة يونيو67 ، بل أشد توحشا ، بالنسبة للبلد والشعب وكل تاريخ مصر ، لأنها كانت ستسحبنا سحبا وقسرا إلى ظلاميات لا خروج منها ، لكن فضل الله لم يشأ  لهذا البلد وهذا الشعب أن يبتلي ببلية سوداء لا تقارن بما قبلها ، لكن جاءت ثورة 30 يونيو لتبدأ المسار الذي كان يجب أن يبدأ منذ يوليو 1952 ، نعم تحمل الشعب الكثير ولا يزال يتحمل ، لكن سأقول أنه المخاض الذي تعاني منه المرأة قبل أن يأتي وليدها إلى النور فتفرح به ، هذا ما نأمل فيه وهذا أملنا في قيادة الرئيس السيسي ، وهذا ما أكتبه لأبناء المهجر ، وهي ليست كلمات أدونها في مقال وينتهي الأمر ، لكن كل ما كتبته هنا دونته أيضا في " رواية انتحار " بالحرف ، والكتب تبقى كشاهد على مر الزمن .