وراء زجاج أحد الارفف فى مكتبى بالمنزل ,,عليه علبة من القطيفة الخضراء يلمع وسطها دينار ذهبى غريب الشأن ...يذكرنى كلما رأيته بحكاية سيدة اسمها ,,صبيحه ,, فى السابعة والعشرين من عمرها ...... سيدة منحتها الطبيعة أجمل ما تحظى به امرأة من أنوثة ..وأشقى ما يتعذب به من جمال جسدها التواق للحياة ...قابلتها ....فى رحلة صحفية رافقت خلالها إحدى فرق الفنون الشعبية المصرية ,,الى مسرح مصيف قرية ,نهر العسل , التى تتربع فوق جبال حدود إحدى الدول العربية ,,,حيث تنتشر الغابات ,,ويغطى الثلج أحيانا قمم الصخور العالية وأسطح بيوت الرعاة ..... تلاقينا بالصدفة فى سيارة الرحلة , فتحادثنا نقطع أميال الطريق حديثا شيقا ....اكتشفت انه برغم كثرة تفاصيله يضم سرا عميقا ...لا يفصح عن نفسه إلا لمن تلمست أشواقه أقدس أسرار المرأة ..وجوهر معنى وجودها كأنثى يمكن أن تحفر ندبا عميقا فى ذاكرة من يعرفها معرفة حميمة ..... خالجنى ذلك الهاجس منذ لحظات لقائنا الأولى حتى ملأنى بأحساس غامض سيطر على ذهنى منذ تعلقت عيناى بوجهها الطفولى القمرى الاستذارة ثم تأكد لى ذلك الخاطر المجنون وعنياى تجوسان خلال تفاصيل بها طلعتها تتمليان من جمال عينيها الرمادتيين الواسعتين واللتين تظللهما نظرة حزن غامض وجدائل شعرها المسترسل بلون الحنطة حول وجهها المشوب بحمرة الصبا المتفجر .... كانت قد صعدت سلم السيارة بين الراقصات والراقصين من أعضاء الفرقة الذين بدأوا يجلسون فى أماكنهم وهى تتحرك نحوى بكيانها الدقيق البديع التكوين ...تبدو كصبى يافع لولا وضوح أنوثة صدرها ودقة خصرها فى البنطلون الجينز تخطو هيئة لينة فى البلوزة الصفراء المخططة بخيوطها الخضراء تتماوج منحدرة من قمة صدرها الصبى حتى دقة خصرها النحيل تسبقها بين صفوف المقاعد حقيبتها الجلدية السوداء ....وعيناها تبحثان عن رقم مقعدها حتى يساعدها مشرف الرحلة المرافق لنا فى العثور على مقعدها المجاور لي ..... - مصرى .....راقص بالفرقة .....؟ - قلت: - لا .....صحفى جئت أغطى الخبر الرحلة لآحدى المجلات ....... - قالت تبتسم بوداعة حزينة : - ها ...أهلين ......شرفتم بلادنا ........لقد شاهدت أول أمس جزءا من فرقتكم على مسرح مدينة – باللوما – الصيفى .....كان عرضا رائعا جئت لمشاهدته متأخرة بعض الوقت وأثار إعجاب السياح العرب والأجانب , القادمين لزيارة أثار الميناء الرومانى ....والسياحة فى مياهنا الدافئة ........ - وأندفعت تخرج من قوقعة حزن عينيها بإبتسامة رضا ........ - لذلك جئت فى صحبة رحلتكم اليوم بتوصية من زوجى الثرى اللبنانى الجنسية مدير شركة السياحة الدولية فى الولاية لأشاهد العرض كاملا ,,وسأعود الى العاصمة وحدى غدا بسيارة رحلاته الخاصة التى تنتظرنى الآن امام مسرح قريته ,,نهر العسل الصيفى ..... - سألتنى فجأة تقطع انحناءة رأسى بكلمات الشكر على ثنائها والسيارة تصعد بعناء شاق مرتفعا صخريا بين صفوف ممتدة من أشجار الفلين العالية والحور والجزورين - هل جربت أن تسافر وحدك بسيارة فى رحلة جبلية صعبة كهذة .....؟ - سمعت سؤالها وابتسمت أهز رأسى لبعض الكلمات الفرنسية التى تتناثر بين حديثها باللغة العربية الفصحى وعيناى على الدينار الذهبى المعلق بالسلسلة الرفيعة حول عنقها يتدلى يتارجح فوق بشرة أعلى نهديها الفائرين ..... مع صمتى وابتسامتى وهزة رأسى بأن صف أسنانها اللؤلؤية الصغيرة المنتظمة بين شفتيها الممتلئتين وهى تعود تسأل : هيه ....هل جربت وحدك ....؟ قلت عائدا لنفسى , ولأبتسامة عينيها الودودتين - لا ......وإن كنت أتمنى .......لولا ......... واصلت حديثى وعيناى تتبعان ما حولى فى السيارة ..ثم أعود أتامل ذقنتها الصغيرة المستدير ,,وعنفها بسلسلة الدينار الذهبى وهى ترمش بأهدابها ملاحظة نظرتى المتكررة للدينار المتأرجح خلال حديثها ..... قالت ضاحكة بحياء لصراحة اعتذارى - آه.........أنتم هكذا يا مصريون صرحاء ,,بساطتكم واعتذاركم هدايا جميلة أجمل من كل تذكارات الصداقة والمودة الغالية ..... - كانت عيناى قد عادتا خلسة تتبعان ارتجاف الدينار مع كلماتها فانحنت برأسها , ثم مدت أصابعها تتلمسه ..... - قلت أهرب من حرجى - قولى لي .....هل فى القرية التى نقصدها نهر ماؤه حلو كالعسل ...........؟ ضحكت ويدها على الدينار الذهبى تداعبه بأصابعها وتثير كوامن نفسى - لا .......ليس بها نهر .....لكن ايام الشتاء مع سقوط الثلج وذوبانه يتجمع ماء كثير وسط منحدرات القرية فى أخدود تسميه بنات القرية نهر العسل وتنهدت ساخرة : - أسطورة قديمة كانت عجائز القرية تزعم خلالها أن الفتاة التى تستحم ليلا فى مياه هذا النهر القصير العمر تتزوج سريعا بمن تحب ,,,وتنجب أول مولود تنجب ولدا ...... - وهزت رأسها تنظر لى فى حنو غامر ,,ثم تنزع فجأة الدينار من سلسلته - وأردفت .....كأنما تشترط على شرطا - على أن تهدينى تذكارا فى مناسبة قادمة ......... قلت متراجعا برأسى - لا ........كيف تفعلين هذا ........؟ -خذ أرجوك ......لقد لاحظت أهتمامك به ,إعجاب نظراتك كان واضحا فى عينيك ......... وتناولت راحة يدى تضع فيها الدينار قائلة : تأمله .....
وتوقفت كلماتها التى كانت قد تحولت همسا بين شفتيها الشهيتين .... أسبلت جفنيها على التماع صفاء سطح البحيرتين الرمادتين الباسمتين لحظة ,,,عرفت خلالها أشواق القلب وهى تتوارى تحت الجفون ثم فأجاتنى بسؤال تنبهت لاحتمالات مرماه ..... -مراد .......راقصكم النوبى ....! حدثت نفسى مندهشا : لا غرابة أن تعرف أسم هذا الراقص من أفيشات الفرقة على باب المسرح أو من كتالوجات البرنامج ....ربما ...... لكنها فاجأتنى أكثر بسؤال أغرب ,,,,, هل تعرف أننى أعمل بوزارة الثقافة رئيسة لقسم الوثائق والمعلومات واننى فى إجازة دراسية بمنحة من السوربون لإعداد رسالة لنيل الدكتوراه فى الامثال الشعبية ....؟ تأملت اندهاشى مبتسمة ,,ثم واصلت لأزداد معرفة بها وبظروفها ......... لقد زرت مصر مرتين ,,تعرفت بعدد من الاصدقاء من المهتمين بالامثال الشعبية عندكم ,,اعرف الدكتور عبدالحميد يونس ورزت دار كتبكم القومية ..وامضيت يوما كاملا فى شارع الصنادقةية ودكاكين كتبه القديمة ,,ولى صديقة شاعرة مصرية تسكن خلف مقهى الفيشاوى ....أنتم المصريون ....آه .....لقد تحدثت كثيرا عن نفسى ......هل تسمح لى باغفاءة قصيرة ...... مع ابتسامة اعتذار رقيقة كشفت عن أسنانها اللؤلؤية الصغيرة أدارت رأسها ....أراحته على ظهر المقعد الجلدى ....غسلت وجهها بظهر راحتها مستسلمة لإغفاءة شممت معها عطر التقاء ذراعيها بجانب صدرها .....فهومت شاردا فى تضاريس صباها والسيارة تدور مع منعطف جبنى حاد لتهوى منحدرة على الطريق الاسفلتى إلى قاع واد أخضر تمتد على جانبيه أشجار عوسجية تدور بعينى ورأسى تقاطعات السحب مع قمم الجبال , أحلق بخيالى مع أفكار مجنونة ومرشد الرحلة يعلن فى ميكرفون السيارة يقول .. الآن قطعنا مائة وخمسين ميلا ,,استعدوا للأرتقاءات الحادة القادمة نحو أعلى منطقة جبلية فى المنطقة أمامنا ثلاثون ميلا لنصل الى ...قرية نهر العسل .......... ******************************************************************
صوت الميكرفون أيقظها من سباتها الرقيق فالتفتت لى ............. لم أنم طويلا .......فى الرحلات الجميلة كهذه يصبح النوم افتقادا لأجمل الأوقات ....... وضحكت خجلا تواصل خصوصا مع رفيق سفر مثلك .......لماذا لم تحدثنى عن نفسك كما تحدثت معك ,,,,, تأملت ابتسامتى صمتى المحرجة ....ثم لاحظت المجلة الفرنسية التى كنت أتصفحها خلال نومها تعلقت نظرتها بالصفحة المجاورة لها وكانت إعلانا لاحدى الشركات الفرنسية التى تبيع لوازم الكلاب وأطعمتها.............. تفرست فى صفحة الإعلان شاردة ,,فظننت انها لا ترى شيئا........أنها تفكر فى شيئا مر بذهنها تفكر كيف تعبر لي عنه لكن عينيها ظلتا تتركزان بدقة تحملقان فى صور الكلاب الثلاثة الغريبة الشكل التى تتوزع صورها على صفحة الاعلان ...ثم استئذانها لى تسحب المجلة من بين أصابعى جعلتنى أعطيها المجلة وابتعد برأسى أتا مل ملامح وجهها التى كساها تعبير غريب لم أستطع أن أحدد له معنى خاصا .. حتى عادت تنظر لى , تهمس كانما ستعترف بسر يعذبها ..أو ذنب يؤلمها ....... قالت ونظرتها ساكنة على ساقيها الممتلنتين فى البنطلون الجينز : هل تعرف لماذا أهتممت بهذا الاعلان ...؟ لماذا اتأملته بحزن صادق ...؟ نظرت اليها متعجبا ذ قالت : - كان عندى كلب إلزاسى شغفت به وأحببته وكان زوجى يعتز به مثلى زوجى اشتراه لى من ألمانيا بثمن خرافى ..كان كلبا من سلالة أصيلة كلب كانت له ميزا ت كانت له مثل الخيول العربية الاصيلة وثيقة بيع كشجرة الانساب العائلية ...وتاريخ حياة .....كان من أسرة كلابية يمتلك أفرادها عدد من أكبر مشاهير الفنانين الألمان - قالت مهمومة تؤكد تعبيرات وجهها عن صدق إحساسها بما تقول : - كنت احبه كأنما احيا من اجلهمن اجل تدليله وإطعامها وتنظيف فراشه .....وكل لوازمه ....كنت أكلمه .وكان يسمع كلامى يفهمه كان يعرف إذا كنت سعيدة ..أم غاضبة كان يفهمنى كان يبكى بالدموع إذا أحس أننى متألمة من شئ أخفيه أو حزينة كان فى غاية الذكاء .....والحنان ......والوفاء ......كان ... - إلي هنا وفهمت ....... - أدركت ......محاولا إخفاء ما فهمته ,,,حريصا على أن لا تبدو على ملامح وجهى آى دلالة لفهمى ومشاعرى وهى تعود خلال مسحها لدموعها باصابعها تقول : - - لكنه مات .....مات منذ أسبوع ,,,ولم استطع ان ابقى وحدى فى المنزل مع زوجى دون طقوس حياة ,,لولى ,, اليومية طعام أفطار ه ,,,الخروج به نصف ساعة صباحا للنزهة على شاطئ البحر كعادته اليومية ......ثم غسل جسده وتمشيط شعره ....... - قالت تعود تنظر فى وجهى : - -هكذا جئت الى هنا بسيارة رحلتكم , اخترت أعلى وأبعد مكان فى الولاية حيث معسكر الشباب وعرض فرقتكم لأروح عن نفسى ...ولأنسى .....قلت مهونا عليها حزنها : - - الي هذا الحد تحزنين لوفاته ......؟ - قالت كالمحتجة على سؤالى : - لا .......ليس مجرد موضوع الكلب .....أنت الان صديقى ....هناك أشياء ليس من السهل أن يدركها الرجل مثلما تدركها المرآة .......لقد كنت أريد فقط أن ومدت ذراعها فجأة فوقها الى شبكة رف السيارة المعدنى تنزل حقيبتها السوداء تعبث بأشيائها لتخرج منها حافظة أوراق جلدية ثمينة حتى تعثر بين أوراقها على تذكرة سفر بالطائرة ثم تهمس : - هذه تذكرة رحلة مفتوحة إلي القاهرة لمدة شهر ,, لقد تزوجت منذ خمس أعوام عقب تخرجى من الجامعة .......لكنى لم أنجب وكنت وزوجى نستعد للسفر لاستشارة أشهر طبيب أمراض نساء عندكم .....الدكتور موسى المنصورى ......زوجى فضل الحضور معى لاستشارته بدلا من الذهاب الى باريس ......لولا وفاة لولى .....منذ أسبوع والآن .....اشعر كأنما كل شئ فى حياتى كالخواء ...شئ معطل مثل الطبلة الجوفاء رغم علو صوتها اذا طرق عليها أحد بأصابعه هل ......بعض الأمور لا تفهم بسهولة .....لكن دعنا من كل هذا الحزن الذى بلا جدوى ...أنظر - وأشارات إلى علامات مرور الطريق الحجرية - - هنلك .....هنا ..... فى آى مكان أو زمان .....علينا أن نطرح أحزاننا وراءنا .....ان نصمد لريح الزمن وأحداثه مثل صخور هذه الجبال ,,تنكسر عليها موجات الريح والشمس والمطر وتظل ثابتة , تستقبل , طلوع النهار وغروب الشمس كل يوم وهى مكانها راسخة ....ساكنة تضحك منا أو تسخر .....ثم من يدرى ......هه ...... - قالت مفترة الشفتين فى حزن .... - ماذا .......تريد ان تفلسف احزانى ...؟ - قلت : - لا ......صدقينى .....الزمن حقيقة لمن يدرك معناه ,,كفيل يقهر الألم ,,بنسيانه .....