في حجرة استراحة المدرسين ، أستاذ الفيزياء وساعاته الأولي في المدرسة ، تقابل مع الناظر ، تسلم عمله ، نصحه بأن ينتظر في حجرة المدرسين ، ليتعرف على زملائه. دق جرس الفسحة وهجم الأساتذة على الغرفة ، ألتف حوله أربعة من الأساتذة الشباب ، يفحصونه من قمة رأسه لأخمص قدميه ، إنكمش على نفسه قليلاً أمام نظراتهم ، ضحك أحدهم ضحكته الجهورية قائلاً :
- كفايه يا غجر الاستاذ خاف .
تمادى في ضحكته الجهورية وأردف :
- بلا مؤاخذه ياأستاذ ، لا تلتفت إلى غبائهم ، هذا هو أسلوبهم ، ما أن يحضر أستاذ جديد للمدرسة ، حتى يلتفون حوله ، لكن لا تخشاهم فهم طيبون ، حب الاستطلاع يتغلب عليهم لاكتشاف هل الوافد الجديد لا يزال ينعم بالحرية؟ ، فيضمونه إليهم ، أم دخل سجن الزواج فيفرون كما لو كان مصاباً بالجرب ، دعني أعرفك برباعي الزندقة كما يطلق علينا أساتذة المدرسة .. هذا أحمد وافي أستاذ الألعاب الرياضية ، الآن لا يستطيع أن يجري لعدة أمتار ، قطعت أنفاسه النساء وليالي الكيف ، والذي يليه صبحي فانوس استاذ الكيمياء ، أسوأ من يهوذا الذي باع سيده بالفضة ، على استعداد أن يبيع أبيه من أجل قدم امرأة ، والذي يليه أبو زيد السيد ، أستاذ اللغة العربية ، غزواته النسائية سيخلد ذكرها في كتب التاريخ، وأنا علي الجرجاوي ، مسئول الخدمة الاجتماعية بالمدرسة ، جميع الموبقات التي يرفُل فيها الثلاثة جمعتها في جيب واحد. والآن من الواجب أن تعرفنا بنفسك قبل أن يمطرك هؤلاء الأوغاد بأسئلتهم السخيفة .
قال أحمد وافي :
_ انتظر ياعلي النظام هو النظام ، الأسئلة يجب أن تكون بشكل منتظم وأنا دائماً أول من يسأل : قبل أن تعرفنا بأسمك يجب أن نعرف حالتك الاجتماعية ، لو كنت متزوجاً ، فلن نطيل عليك ، ولا يعنينا حتى معرفة أسمك.
_ أطمئن .. لست متزوجاً .
صفق أربعتهم وهتفوا مرحبين بزميل العزوبية الجديد .
قال أبو زيد السيد:
_ الآن نتشرف بأسمك.
_ نعيم شاروبيم مدرس لغة إلنجليزية .
علق علي الجرجاوي مصفقاً :
- الله الله .. لقد زادت نسبة المواطنة وانضم إلينا زنديق قبطي آخر واصبحنا خماسي الزندقة .
وقال صبحي فانوس مبتسماً :
- لك مطلق الحرية في أن تنضم إلينا أو لا تنضم .
علق أبو زيد السيد وهو يزيح صبحي فانوس بعيداً :
- فلتذهب إلى الجحيم ياصبحي يا فانوس ، سينضم بالطبع ، أم تريد أن تقلل من نسبة المواطنة .
************
في إحدى قرى الصعيد ، كانت تقيم أسرة صليب يسى ، زوج وزوجة وثلاث بنات أكبرهن في العاشرة من عمرها . صليب يسى لم يكن يحمل سمات الأب أو راعي الأسرة مطلقاً ، فاقد الوعي دائماً تحت تأثير الكحوليات . الزوجة المسكينة التهبت عيناها من كثرة الدموع ، راجية أياه أن يراعي الله في أسرته وبناته ، رده الوحيد هو قذائف من البذاءات يلقيها في وجهها . حكاية أصبحت شبه يوميه ، لم تصلح معه نصائح الأهل ولا حتى عظات الأب الكاهن . التهمت الخمر التي يعبها نهاراً وليلاً نقوده ، تحول لوحش يكاد يفتك بزوجته أن لم تهبه قطعة من مقتنياتها الذهبية ليصرف على مزاجه . وقفت أمامه عائلتها بعد أن تأكدوا أنه سار في طريق اللاعودة ، توجه إلى الأب الكاهن يطلب الطلاق ، بحجة أنها لم تمنحه سوى الإناث وهو يرغب في خلفة من الذكور ، الأب الكاهن نهره وصده بعنف موبخاً تصرفاته الحمقاء ، لم يجد حلاً أفضل من أن يسطو على باقي مقتنياتها الذهبية ويهرب بها إلى إحد مراكز الوجه البحري ، توارى هناك خلف محل لبيع الخمور ، لكن خلف الزجاجات كانت توجد موبقات أخرى ، لكل أصحاب المزاج بكافة أنواعه وأشكاله ، ذاع صيته وحاز على لقب تاجر الخطيئة .
********
لم يقاوم نعيم شاروبيم كثيراً ، انضم عن اقتناع إلى رباعي الزندقة ليصبح خامسهم ، وقال عن اقتناع أكثر ، أنه على الإنسان أن يجرب كل شيء ، وأن هذه التجارب تُكسب خبرة الحياة ، وأضاف باقتناع مغلف ببعض الشك ، أن الإنسان عليه أن يمارس الخطيئة أيضاً ليشعر بحلاوة التوبة ، وأن كثيراً من الأنبياء أخطأوا ثم تابوا ، وأن الحلال والحرام شيء نسبي ويتوقف على نية الفاعل ، فربما يرتكب الحرام وهو يقصد من خلفه الحلال ، وربما يفعل الحرام وهو يظن أنه الحلال . المثال على ذلك والده ، أنجبه بعد خمس إناث ، سعياً وراء الذكر وظن أنه يفعل الحلال ، جنى على زوجته ضعيفة البنية ، غادرت الحياة عقب ولادته ، تزوج من ثانية أذاقتهم من العذاب ألوان . ثرثر نعيم شاروبيم كثيراً بعد أن دغدغت الكأس الثانية حواسه ، المرة الأولى التي يتذوق فيها الكحول، تشجع والجميع ينصتون إليه باهتمام ، لكن أحمد وافي انتهز فرصة توقفه للحظات ليرتشف رشفة جديدة ، صفق هاتفاً :
- يعيش الفليسوف الزنديق .. يعيش الفليسوف الزنديق .
ابتسم نعيم ورفع يديه تحية لرباعي الزندقة ، وثلاث فتيات أرسلهم تاجر الخطيئة ، من المعتاد أن يرسل باثنتين ، لكن هذه الليلة كان احتفالاً خاصاً ، بانضمام الزنديق الخامس . رأى نعيم أن الموضوع يجب أن يتخذ شكلاً أكبر أمام هذه الحفاوة ، قفز فوق المنضدة التي بجانبه ، ليقوم بدور خطيب من خطباء حديقة هايدبارك بلندن ، دفع إلى حلقه برشفة كبيرة ، هز رأسه متعجباً وقال بصوت ارتفعت حدة نبراته :
- تخيلوا أيها الأصدقاء تاجر الخطيئة أسمه صليب !!
علق أبو زيد السيد مقهقهاً :
_ وما هو الخطأ .. هل كنت تريد أن يكون اسمه على أو أحمد مثلاً
قال نعيم مقهقهاً وهو يقذفه بنواة زيتونة :
_ لا أقصد ما جال بخاطرك أيها الزنديق المتطرف ، لكن فقط أعترض أن يكون الصليب اسماً لهذا الفاسق .
قال صبحي فانوس وهو يداعب الفتاة التي تجلس بجواره :
_ وهل هو الذي أطلق هذا الأسم على نفسه أيها الساذج ! وهل أبوه كان يعلم أنه سيكون بهذا الفجور .
إنطلقت ضحكة علي الجرجاوي الجهورية قائلاً :
_ الأسماء ياخوانا ليست هي المعيار ، كم من المسئولين أسمهم أمين وهم لصوص ومرتشين ، وكم من البشر أسمهم سعيد ويعيشون حياتهم في تعاسة ، وهناك مثل شعبي يقول ( لو كانت الأسامي بفلوس كانوا سموا القمر فانوس ) ، لا تشغل بالك يا نعيم باسم تاجر الخطيئة .
تمايل نعيم فوق المنضدة ، كاد أن يفقد اتزانه ، لكنه تماسك ، عاد ليكمل حديثه بلسان مثقل بأربعة كؤوس :
- أنا لا أعير اسمه اهتماماً ، لكن بما أنكم أطلقتم علىَّ لقب الفليسوف الزنديق ، فلا بد من الفلسفة ، حتى أكون أسماً على مسمى . تمايل للمرة الثانية وهذه المرة كاد أن ينكفيء من فوق المنضدة ، فتلقته إحدى الفتيات بين ذراعيها وربتت فوق ظهره قائلة :
- كفاك من فلسفة الكلام ، وهيا إلى الداخل لأريك كيف تكون فلسفة الفراش ، أخبرني أبو زيد بأنك مبتدىء.
- قال أحمد وافي وقهقته تختلط بنبرات لسانه الثقيل :
- محظوظ ابن الكلب لم يصر له معنا سوى بضع ساعات ، واستحوذ على الليلة بالكامل ، وختمها بفتاة كاملة ، وترك لنا اثنتين ، أي سيكون نصيب كل واحد منا نصف فتاة ، وقد تحدث مشاجرة ، من الذي سيأخذ النصف الأسفل ومن سيأخذ النصف الأعلى ، انكفأت رأسه فوق حافة المنضدة ليذهب في سبات عميق تتخلله الأحلام عن النصف الذي سيحظى به .
********
أسبوع وتاجر الخطيئة يغلق بابه ، لا أحد يدري أين ذهب ، وكأن الأرض انشقت وابتلعته ، الزنادقة لم يتقاعسوا في السؤال والبحث عنه دون طائل . ترك المنزل الذي كان يسكنه ، والمتجر مغلق ، ولم يسمع عنه أحد في قسم الشرطة أو المستشفى ، وبقت علامة الاستفهام ، أين ذهب صليب يسى تاجر الخطيئة ؟ . كان الاجتماع ساخناً ، لبحث هذه المصيبة التي حطت عليهم ، غياب تاجر الخطيئة يعني غياب ليالي الأنس والفرفشة ، فالرجل سوبر ماركت متكامل لكل أنواع السهرات ومستلزماتها .
قال أحمد وافي وكأنه توصل للحقيقة:
- الاحتمال الوحيد أن يكون صليب يسى تزوج بإحدى الفتيات وهربا معاً إلى مكان لا يعرفهما أحد .
- قال أبوزيد متهكماً :
_ تحدث غبي الزنادقة فكان حديثه لغواً .
قال أحمد وافي مدافعاً عن رأيه :
_ ولماذا ؟ لقد قتلنا الموضوع بحثاً ولم نصل لشيء ، ولم يبق سوى هذا الافتراض .
ضحك علي الجرجاوي ضحكته الجهورية قائلاً :
_ أنا أؤيد أبو زيد في اتهامك بالغباء يا أحمد يا وافي .. نحن نعرف الرجل منذ فترة طويلة ، ونعلم أنه يتاجر في كل أنواع الموبقات ، لكنه لم يكن يتعاطى منها سوى الخمر ، وهو بنفسه قال ذات مرة أن النساء لا يشغلن باله
_ قال صبحي فانوس وهو يشير نحو نعيم شاروبيم :
_ السبب الوحيد أن يكون حل بيننا وجه شؤم .. تحركت أعين الجميع نحو نعيم وكأنهم أكتشفوا الحقيقة الغائبة ونهض أبو زيد يقفز ويلطم وجهه قائلاً:
_ نعم .. نعم .. هذه الحقيقة التي كانت غائبة عن أذهاننا .. وجه الشؤم حل بيننا ، لماذا لم ننتبه لهذا!! لقد أغلق تاجر الخطيئة بابه بعد يوم واحد من وصول نعيم شاروبيم ، نعيم شاروبيم لم يشكر الله على النعمة التي غرق فيها ليلة بأكملها فزالت النعمة عنا جميعاً لا بد من محاكمته .
_ وماذا ستجدي محاكمته ، لن تعيد إلينا تاجر الخطيئة ، ولا فتيات الأنس ، أنا أقترح أن يُحرق نعيم شاروبيم ، أنا أتهمه بالسحر والشعوذة ، ألم يحرقوا جان دارك بتهمة السحر والشعوذة ، فليواجه نعيم شاروبيم نفس المصير .
علق أبو زيد مدافعاً :
كفاكم تهريجاً ، فالرجل خسر أيضاً ، ألم تروه والفتاة تسحبه نحو الغرفة ، ويده لا تستقر على مكان فوق جسدها ، وكأنه أحد لصوص على بابا ويده تقلب بجنون في مجوهرات الكنز
لم يقتنع أحمد وافي بدفاع أبو زيد ونهض يحجل على ساق واحدة مغنياً :
وش الشؤم حل علينا .. خلى الدنيا زفت وطين.. خطف البهجة من عنينا .. وشك ولا غراب البين .
قال علي الجرجاوي تصاحبه ضحكته الجهورية :
_ كفى أيها الزنادقة ، لا تظلموا الرجل ، وعلى الجميع أن يكثفوا البحث عن تاجر الخطيئة ، وإحضاره حياً أو ميتاً .
*********
كانت العروس تتعلق بذراع عريسها ، فوق وجهها ابتسامة ، قد تكون هي الابتسامة الأولى منذ أو وعت الحياة ، ومن خلفهما صليب يسى أو تاجر الخطيئة سابقاً ، يمسك بالناقوس في يده وهو يرتدي ملابس شمامسة الكنيسة البيضاء ويقود فرقة من المرتلين ، الموكب كله في طريقه إلى مقدمة الكنيسة لأتمام طقوس الزواج .
قال صبحي فانوس حانقاً :
- ألم يجد هذا الحمار سوى بنت صليب يسى ليتزوج بها
لكزه على الجرجاوي لكزة آلمته وقال دون أن تصاحبه ضحكته الجهورية :
- أولاً هذب ألفاظك فنحن نقف في الكنيسة ، ثانياً أنظر إلى الصورة المعلقة على الجدار وأنت تعرف أنك لم تتعلم شيئاً من ديانتك .. كانت الصورة للسيد المسيح وهو يكتب بأصبعه فوق الأرض وأسفل الصورة كُتبت كلماته " من كان منكم بلا خطيئة فليرمها أولاً بحجر "
أحمر وجه صبحي فانوس خجلاً وقال من خلال تلعثمه :
-آسف .. لم أقصد أن أخطئ في حقه لكني فقط أشفق عليه من هذا الزواج .
قال على الجرجاوي :
- أعتقد أنك حتى الآن لم تفهم كلمات السيد المسيح أيها الغبي .
- من دقيقة واحدة نصحتني بأن أهذب ألفاظي لأننا نقف في الكنيسة ، وها أنت تشتمني وتنعتني بالغبي .
- لم أقصد أن أسيء إليك ، والله غفور رحيم يا حما... أستغفر الله العظيم .. قال على الجرجاوي وهو يحاول أن يكتم ضحكته الجهورية .
انتهت مراسم العرس والتف الزنادقة الأربعة يهنئون نعيم شاروبيم بزواجه من نورا بنت صليب يسى ، ومال أبو زيد السيد نحو أذنه وهمس :
- لقد خسرنا فيك زنديقاً كان يمكن أن يلمع نجمه .
- قال أحمد وافي ضاحكاً :
_ نعم أنك لم تأخذ فرصتك بالكامل . فزندقتك لم تدم سوى لليلة واحدة .
_ انتهى عهد الزندقة لنا جميعاً يا أولاد... تذكرعلي الجرجاوي أنه لا يزال يقف في الكنيسة وتوقف عن إكمال شتمة بذيئة ، نظر نحو صبحي فانوس واضعاً يده على فمه حتى لا تنطلق ضحكته الجهورية .
*********
من الحقيقة ما يفوق الخيال ، كيف تاب تاجر الخطيئة وأصبح من خدام الكنيسة ، أراد الله التوبة له ، تمت بطريقة لم تكن تخطر على ذهنه . عندما ذهبت إليه صائدة الفتيات بفتاة جديدة ليضمها إلى قائمة الرذيلة ، وما أن وقعت عين الفتاة على وجهه حتى انهارت مغشياً عليها ، اكتشفت نورا صليب أنه أباها الذي تركها وهي في العاشرة من عمرها . عادت نورا لوعيها ومن خلال دموعها المتوهجة أوجزت :
رحلت أمي عن الحياة بعد هربك بثلاث سنوات ، كنت في الثالثة عشرة من عمري ، كان عليَّ أن أدبر معيشتنا أنا وأخواتي الصغيرات ، بعد أن تخلى الجميع عنا . عملت في مصنع ، صاحبه وحش افترس براءتي عنوة ، حاولت أن أفضحه ، كاد أن يزج بي في السجن . سارعت بالهرب ومعي أختاي ، لأواجه مصيراً أحلك من ظلام الليل قادني إلى الرذيلة ، لأقف أمامك في النهاية وأنا في هذا الوضع المخزي ، لكن يعلم الله أنني لولاهما لكنت انتحرت قبل أن تنزلق قدمي إلى هذه الحياة القذرة . في أقل من لحظة انسابت دموع الأب لتطهره من ماض بشع ، أمسك بيدها لتقوده إلى ابنتيه ، سار في طريقه لا يلوى على شيء سوى التوبة .
عندما عثر عليه الزنادقة الخمسة في الكنيسة بعد أن دلهم على مكانه أحد زملائهم المدرسين ، قص عليهم صليب يسى قصته المخزية التي جنت على ابنته ، دون أن يخفي شيئاً منها . وفي لحظة تلاقت عينا نعيم شاروبيم بعيني نورا الممتلئتين بالحزن ، قرر أن يتزوجها . سبق نعيم عروسه ببضع خطوات ووقف أمام الزنادقة الأربعة وقال بلهجة واثقة :
لقد سبق وقلت لكم أن الحلال والحرام شيء نسبي ، وأنا أرى في قراري هذا الحلال الكامل بل الثواب بعينه .
نظر على الجرجاوي نحو صبحي فانوس وفي هذه المرة لم يستطع أن يكتم ضحكته الجهورية قائلاً :
- هل فهمت أيها الغبي أم أحضر لك حجراً !!
...........
إدوارد فيلبس جرجس
*********************