لملمت الشمس أشعتها الذهبية ورحلت عن طيب خاطر ، لتُخلي مكاناً للقمر الفضي وخيوطه الحريرية ، إستحت نجمات قليلة حوله وارتعشت ، وانتثر الباقي حوله عن بعد في نظام بديع . اليوم اكتملت دارته تماما ، نظامه البديع لا يتبدل ولا يتنازل عنه أبدا ، دائما في نفس الميعاد يخرج علي محبيه وعشاقه . قررت أن أزيد من مساحة تمتعي المحدودة خلف زجاج النافذة ، هبطت إلى الحديقة التي تقع أمام منزلي حيث لا سقف ولا جدران . داعبت وجهي نسمة رقيقة تسللت من خلال الأشجار ، لم يشاركني فيها سوي زوج من العشاق تلاصقا فوق الأريكة المواجهة لي ، لم تطل إقامتهما فخاصرها وخاصرته وانطلقا . الساعة الآن الحادية عشرة ليلا ، من يظل ساهرا حتى هذه الساعة ، ولم يتغلب عليه إرهاق العمل ، يفضل أن يكون مسترخيا أمام شاشة التلفزيون ، حتى السيارات العابرة طالت فترات أزيزها . لم أفكر كثيرا لكي أنتقل من الأريكة الخشبية لأتمدد فوق العشب الأخضر الرطب مستخدماَ كفي كوسادة ، أتأمل وجه القمر. انتبهت على صوت لم أدر كيف تمكن صاحبه أن يصبح أمامي دون أن يثير انتباهي :
_ هل يستهويك وجه القمر ؟
_ نعم .. لا أراه سوى مرة كل شهر .
_ تذكرني بنفسي عندما كنت شاباً مثلك.
رفعت رأسي مستندا على مرفقى لأتمكن من رؤية محدثي جيدا وقلت وأنا أبتسم:
_ شاب مثلي .. هل تعلم أن من تحدثه تعدى الحلقة الخامسة بما يزيد عن عدد أصابع اليد.
زادت ابتسامة الغريب حتى ملأت وجهه وقال :
_ وما الغريب في أن يدعوك بذلك من تجاوز عمره الثمانين ، عندما كنت في مثل عمرك كنت أظن نفسي كهلاًَ ، لكن الآن أنظر إلي هذه الأيام علي أنها كانت أيام الشباب .
نظرت إليه وأنا لا أصدق أن الواقف أمامي في مثل هذا العمر ، فلا قامته المنتصبة ولا وجهه الذي لم تذهب عنه نضارته ووسامته ينبئان عن ذلك . افترش العشب إلى جانبي ، مما دعاني إلى التخلي عن وضعي النصف جالس وأحذو حذوه . داعبت أصابعه العشب وتحدث وهو ينظر إلي الأرض وكأنه يحدثها قائلا :
_ منذ طفولتي وأنا أحب الليل والهدوء ، الليل له أسراره ، معظم الناس تموت ليلا ، ومعظم المواليد يأتون ليلا ، فيه تحاك المؤامرات ، وفيه يختلي العشاق ، لا يصادقه إلا من كانت له أسبابه . الليل بحوره عميقة ، صعب أن تكشف سره ، اختار القمر ليكون كاتم أسراره ، وأبدا ًلم يفش سره . إرتباط الليل بالقمر يختلف كثيراً عن ارتباط النهار بالشمس . وعملاء الليل والقمر يختلفون تماما في سلوكياتهم وطباعهم وأخلاقهم عن عملاء الشمس والنهار ، رفع عينيه إلى وجهيَ متأملا وسألني :
_ هل تؤمن بالحظ ؟
قلت ولست أعلم لماذا انجذبت إلى حديثه ، وشعور بأنني أعرفه منذ فترة طويلة :
_ إيمانا شديدا .
_ أذا ًدعني أقرأ لك طالعك ونري ما يقوله الحظ بشأنك ، فأنا لا أفعل هذا سوى مرة واحدة كل شهر عندما يكون القمر مكتملاً .
أخرج الغريب أوراق اللعب من جيبه ووضعها فوق كفه ، تمتم بصوت يمكنني سماعه وهو مغمض العينين قائلاً:
_ أيتها الأشعة الفضية التي تغمرين هذه الأوراق ، أعلم أنك قادمة من طرف كاتم أسرار الليل ، فلا تبخلي علينا بكشف بعض ما تدخره لنا أبراجنا من حظ في هذه الدنيا ، نظر إلىَّ وفوق شفتيه ابتسامة ساحرة وقال :
_ سأضع في كل مرة ورقتين فوق الأرض، واحدة أمامك والأخرى أمامي، وسنقرأ ما تقوله الورقة الخاصة بك وما تقوله الورقة الخاصة بي. انجذبت حواسي تماماً لهذا الغريب ، وضع ورقتين تأملهما وقال : التي أمامي تحمل رقم أربعة ، والتي أمامك تحمل رقم واحد ، أردف وكأنه يحدث نفسه ونظره متجها للقمر .
_ ورقتي تقول إن أسرتي تتكون من أربعة أفراد وهذا حقيقي ، أما ورقتك تقول بأنك وحيد فهل هذا حقيقي ؟
أجبت وقد تملكني الانبهار :
_ نعم أنا وحيد .
سأل الغريب :
_ لماذا لم تتزوج ؟!
أجبت بمرارة :
_عندما أصبحت ظروفي مناسبة للتفكير في الزواج ، كان قطاره قد ابتعد عن محطتي.
قال الغريب :
_ يمكنك أن تتزوج في أي عمر والمتغير الوحيد هو عمر من ستتزوجها.
أجبت مبتسماً :
_ لكن قلبي لا تستهويه سوىّ أفراخ الحمام
ابتسم الغريب ، رفع الورقتين ووضعهما جانبا ، ثم وضع غيرهما . كانت التي أمامي هي الجوكر ومثلها أمامه، ضحك بشدة وقال :
_ الأوراق تقول إننا متماثلان في هذه النقطة ، فهل أنت مثلي تقلبت كثيرا في هذه الدنيا كالجوكر ، وطرقت العديد من أبوابها وقفزت قفزات سريعة.
أجبت وقد ازددت انبهاراً :
_ نعم .. نعم هذا ما كان بالضبط .
هز الغريب رأسه ولم يعلق بشيء . عاد ورفع الورقتين ووضعهما فوق السابقتين . ثم وضع ورقتين جديدتين ، كانت التي أمامي تحمل رقم اثنين والتي أمامه تحمل رقم عشرة وقال :
_الورقة الخاصة بي تقول إني أسكن بعيداً عن هنا ، أما ورقتك فهي تقول إنك تقيم علي بعد خطوتين من هنا فهل هذا مضبوط .
_ نعم منزلي هو الذي يقع أمامك على الجانب الآخر من الطريق ، أعيش فيه بمفردي لا أسمع سوى صدى صوتي يتردد بين جوانبه . تطلع الغريب في ساعته وابتسم قائلاً :
_لن أستطيع أن أخبرك بالمزيد هذه الليلة ، لم يتبق سوى دقيقتين لتعلن الساعة عن منتصف الليل ، وهو وقت ورقتي الحظ ، في الساعة الثانية عشر تماما قي اليوم الذي يكون فيه القمر مكتملا ، تشير الورقتان للحظ . دقت الساعة إثنتىّ عشرة دقة ، رفع الغريب يده القابضة على أوراق اللعب لأعلى ، أخذ ورقتين وكانت التي أمامي للبنت أما التي أمامه فهي للشايب ، تكونت فوق شفتيه ابتسامة حزينة وقال:
_ ورقتي تقول إن المتبقي من العمر لم يعد يحتمل مغامرات أخرى، وعلىَّ أن أنتظر النهاية ، أما ورقتك فتقول إن الوقت أمامك ، وأن القدر سيجود عليك بفرخ الحمام التي لم تفز بها وأنت في سن الشباب . البنت المرسومة على ورقتك إهداء من برج الحظ لك في هذه الليلة ، إحتفظ بها فهي التي ستقود فرخ الحمام إليك.
نظرت إليه وأنا غير مصدق ، سألته وأنا اشعر بأنه بعث في داخلي الأمل من جديد :
_ متي يكون ذلك ؟
ضحك الغريب وهو ينهض قائلاً ،
_ هذا علمه عند الله ، ليس لي القدرة علي تحديد المواعيد قد أراك الشهر القادم عند اكتمال القمر.
تأملته وهو يبتعد ، خُيل لعيني أن قدميه لا تمسان الأرض ، رأيته يخرج هاتفاً من جيبه ، صور لي خيالي أنه يتحدث مع القمر . فكرت في هذا الغريب وما قاله لي . عدت ثانية إلى الأريكة الخشبية ، استعرضت حياتي الماضية ، الساعة تشير إلي الواحدة بعد منتصف الليل . نهضت وانتظرت حتى تعبر السيارة القادمة لأقطع الطريق . لكن السيارة توقفت أمامي بالضبط ، أطلت من بداخلها من النافذة القريبة مني ، ظننت أن القمر الذي في السماء قد هبط إلى الأرض ، سألتني وهي تبتسم عندما قرأت ما بداخل عيني:
_ هل تعرف فندقاً قريباً من هنا من فضلك ، فأنا غريبة عن هذه المدينة ؟
لم أجبها ووجدت لساني يقول دون أن أدري:
_ يا إلهي لقداجتمع الجمال مع فرخ الحمام .
تجاهلت كلماتي وأعادت سؤالها وأفقت من دهشتي بروعة جمالها وقلت:
_أنا آسف ، منذ فترة قصيرة كان يجلس معي هنا رجل يقرأ طالعي ، تحدث معي عن فتاة جميلة ، ستظهر في أي وقت ، ثم ظهرت أنت، فالتبست الأفكار داخل رأسي ، ووجدت نفسي أنظر إليك كالأبله . إن كنت لا تصدقينني أنظري إلي هذه البنت ، إنها من أوراق اللعب التي كان يحملها معه ، قال لي احتفظ بها ففيها يكمن حظك .
حلت الدهشة فوق وجهها وهي تنظر إلىَّ وتلاحقت الكلمات على لسانها :
_هل هو رجل طويل تعدي الثمانين من عمره ذو وجه جذاب ؟
أجبت وقد انتقلت دهشتها إلى وجهي :
_ نعم.. نعم .
حدقت في وجهي وهي تردد :
_ هل من المعقول أن تكون أنت ؟..إنني لا أصدق .. هل أنا في حلم؟!
وجدت يدي تمتد إلي مقبض باب السيارة ، جلست إلى جانبها وعقلي يعلن عدم الفهم وسألتها:
_ هل لك أن تخبريني كيف عرفت بأمر هذا الرجل ؟!
فتحت حقيبتها ، أخرجت ورقة من أوراق اللعب تحمل صورة الولد ووضعتها في يدي وهي تقول :
_ حافتها بها قطع مائل كالورقة التي تحمل صورة البنت التي معك ، إنها من نفس أوراق اللعب التي كانت مع هذا الرجل . قابلته منذ حوالي ثلاثة أشهر في ليلة اكتمال القمر . كنت جالسة مع خطيبي في أحد المطاعم نتناول العشاء في الهواء الطلق ، تقدم منا وعرض علينا أن يقرأ لنا الطالع ، قبلنا من باب التسلية . نظرنحوي وقال بجرأة غريبة أمام خطيبي ، بأن حظي ليس معه ، لكن مع من سأقابله ويحمل ورقة لعب مثل التي أعطاني إياها ، لكنها تحمل صورة البنت . ضحكت أنا وخطيبي ونظرنا إليه على أنه رجل مهذار . المدهش أنه لم تمض سوى ثلاثة أسابيع على هذا الحديث ، حتى حدث سوء تفاهم بيني وبين خطيبي على أمر تافه وانتهت علاقتنا . نسيت ما قاله لي هذا الرجل ولم أتذكره إلا الآن عندما رأيت معك ورقة اللعب التي تقول إنه أعطاها لك .
تلاقت نظراتنا وانتابتنا نوبة هستيرية من الضحك ، كان لها الفضل في أن تذكرنا بأننا لسنا في حلم . رجوتها أن تقبل اقتراحي بأن تعتبر منزلي الفندق الذي تبحث عنه ، ويمكننا داخله أن نحاول أن نجد تفسيراً لهذه الأحداث . لم أجد ممانعة منها ، وبالرغم من أننا لم نتقابل إلا منذ فترة وجيزة إلا أن ضحكاتنا ملأت أرجاء المنزل . ببساطة شديدة عرضت أن تعد كأسين من الويسكي لي ولها ، وأعد أنا بعض الطعام لأنها تشعر بالجوع . تناهى لي صوتها وأنا داخل المطبخ تسألني إن كنت أريده بالثلج ، أجبتها بالإيجاب. جلسنا متواجهين أختلس النظرات إليها وأنا غير مصدق أن تكون هذه الفاتنة ، كان الحظ يخبؤها في جعبته ، ليكشف عنها وأنا في هذا العمر . رفعت كأسها نخب تعارفنا ، حذوت حذوها ، لم تمض لحظات حتى شعرت بأني أسبح داخل خيوط القمر الحريرية .
****
فتحت عيني وأغلقتهما سريعا ، شعرت بدوار يلعب برأسي ، الساعة تعدت الثانية عشرة ظهرا . حاولت أن أجمع أفكاري المشتتة فيما حدث ليلة الأمس ، وما الذي دعاني أن أرقد علي الأريكة في حجرة الاستقبال . تذكرت الفتاة .. هل كان هذا حقيقة أم حلم! .. فتحت عيني ثانية ووقعت على المنضدة التي لا تزال عليها بقايا طعام ليلة الأمس ، وكأسان كان على حافة أحدهما أثار من طلاء الشفاه . اذاً فالفتاة حقيقة .. ما الذي حدث وأين هي ؟ تمكنت من النهوض وجررت قدمي استطلع غرف المنزل بحثاً عنها . اكتشفت الحقيقة عندما وقعت عيناي على الخزينة الخاوية من محتوياتها النقدية والمجوهرات ، واختفاء كل ما في المنزل من أشياء ثمينة . آه يا رأسي .. فرخ الحمام لم تكن سوى لصة ، استطاعت أن تضع المخدر في كأس الويسكي المثلج ، احتسيته بالكامل ، فكان له الفضل أن أنام نوما عميقاً حتى منتصف النهار، لولا إحساسي بالأسى لضياع هذه الثروة لانفجرت ضاحكا . تذكرت كيف ابتلعت الطعم ليلة الأمس ، وأنا أتخيل أن القدرعندما يقرر أن يمنح لا شيء يقف أمامه . بين انصراف الغريب وظهور فرخ الحمام لم يتعد النصف ساعة . لم يأت بخاطري مطلقاً ، أن هذا كله لم يكن سوى مشهداً كوميدياً علي مسرح الحياة . أعددت لنفسي قدحاً من الشاي عله يعيدني لكامل صحوتي ، ما أن بدأت برشفة منه ، حتى دق الهاتف ، سمعت على الطرف الآخر من يقول:
_ هل استيقظت ؟
_من المتحدث ؟
_ هل نسيت ؟! .. الإنسان لا يقابل كل يوم من يكشف له طالعه.
_ لص قذر.
_ ولماذا لا تصف نفسك بأنك سيد المغفلين ؟
_ لأنني وثقت فيك وفي هيأتك .
_ ألم تعلمك أمك وأنت صغير أن تحترس من الغرباء .
_ ليس كل الغرباء لصوص .
_وليس كل البشر مغفلون .
_ كيف أمكنك تدبير هذا كله ؟
_ في غاية البساطة .. الفتاة التي رأيتها ابنتي ، كانت تود أن تصبح ممثلة ، لكنها وجدت أن أدوارها الواقعية في العمل معي أربح لها . نحن لا نقوم بهذه العملية إلا مرة واحدة كل شهر عند اكتمال القمر . أنا أؤمن بحظي في هذا اليوم .. سنوات طويلة وأنا أمارس ما مارسته معك ليلة الأمس ، ولم أعد خاوي الوفاض أبداً.
_ ولماذا اخترتني أنا ؟!
_ هنا تلعب الخبرة دورها فمن يرقد وحيداً فوق العشب يتأمل القمر والوقت قارب منتصف الليل ، من الُمرجح أنه يعاني الوحدة ، والحي الراقي الذي تقطنه ينبيء عن وجود أشياء ثمينة في منزلك . انتقاء المكان والعملاء متروك لخبرتي ، وحين أقع علي ضالتي أترجل من السيارة وتتبعني ابنتي عن بعد ، وعندما انتهي من حديثي معه وأنهض ، أتحدث معها من هاتفي بكل ما أود أن أخبرها به . ثم يأتي دورها الذي ينتهي بنوم عميلنا. تهاتفني لكي أعود إليها لنأخذ كل ما نريده ونحن في أتم الهدوء .
_ وأوراق اللعب وما أخبرتني به عن طالعي!!
_ أنا لم أخبرك بالكثير ومعظم ما كنت أخبرك به استقيته منك شخصيا، وأنت واقع تحت تأثير كلماتي. أما أوراق اللعب فأنا أعدها بالترتيب الذي رأيته مسبقا ، ولدىَّ عدد كبير منها أخبئه داخل ملابسي واستعمل لكل حالة ما يناسبها .
_ هل لديك مانع أن نعقد اتفاق ؟
_هات ما عندك .
_ أن ننسي ما حدث وتزوجني ابنتك.
_ تقصد فرخ الحمام .. ليس هنا مانع بشرط أن تعود بأعوامك لمرحلة الشباب .
_ إنني كنت أعلم أنك سترفض ليس بسبب أعوامي لكن بسبب أنانيتك، فأنت لا تريد أن تخسر ذراعك اليمني في لصوصيتك .
_لو كنت استخدمت هذا الذكاء ليلة الأمس ما كنت انزلقت .
_ هل تكون كريماً وتعيد لي بعض ما أخذت ، البعض منه أعتز به جداً .
_ آسف.. نحن لا نقابل سوى مغفل مرة كل شهر.. وبالمناسبة هل قمت بإبلاغ الشرطة؟
_لا..
_ لماذا ؟! ما سرقته منك يعد ثروة !!
_ أحببت أن أحذو حذو القمر فهو كاتم أسرار الليل .
_ أهنئك ، أنت من عشاق القمر.
*********************
إدوارد فيلبس جرجس