فرانسوا باسيلي يكتب: المصريون يصنعون المعجزات، إذا أرادوا

فرانسوا باسيلي يكتب: المصريون يصنعون المعجزات، إذا أرادوا
فرانسوا باسيلي يكتب: المصريون يصنعون المعجزات، إذا أرادوا

معجزة العبور 

في إحتفالات ذكري نصر أكتوبر في العام الماضي 2016, التقت إحدي القنوات التلفزيونية بأحد أهم القيادات العسكرية المصرية، في لقاء شاهدته هذا العام فأذهلني، 

إذا لم تدمع عيناك فلابد سيدمع قلبك وأنت تستمع إلي هذا الحديث ألمذهل والمفصل بالأسماء والتواريخ للواء باقي زكي يوسف، صاحب الفكرة العبقرية التي كانت أساس نجاح حرب العبور في 73, رجل تتجسد فيه أعلي معاني الوطنية والعقلانية والتواضع والتمكن والقدرات الذاتية مع الإنتماء التلقائي الواعي لمصر وتاريخها ومستقبلها، من المحزن أن هذا اللقاء حظي فقط بعشرة آلاف "لايك" والمفروض أن تشاهده وتعجب به الملايين من المصريين،

 

في هذا اللقاء ألفريد، يحكي اللواء باقي زكي يوسف التفاصيل الفكرية والعسكرية والإنسانية التي أدت إلي العبور التاريخي ألمذهل لجيش مصر لحاجز بارليف، كيف أتته الفكرة من خبرته في بناء السد العالي، وكيف كان استقبالها بسرعة كبيرة واعتمادها للتجربة والتمحيص في يوليو 1969 في عهد عبد الناصر الذي وافق عليها في اجتماعه الأسبوعي لقادة الجيش، اسمعوا حتي يصمت من يشككون في نصر مصر العظيم في 73, وحتي تتعلم الأجيال القادمة وتعرف قيمة ومعني ما حدث من اعجاز قام به المصريون القادرون علي تكراره في أي وقت إذا ما استنفرت همتهم لمواجهة المستحيل.

 

استغرب كيف لم يتم هذا اللقاء من ثلاثين سنة، وكيف لم يتكرر، وكيف لم يدرس في كافة مدارس وجامعات مصر، بما فيها المعاهد الأزهرية، حتي يفهم طلابها قيمة أن يقف المسلم والمسيحي صفاً وطنياً واحداً، ولا يتنطع داعية همجي لتكفير الأقباط وعزلهم داخل وطنهم، فلم تمر سنوات قليلة علي عبور 73 حتي كان الدعاة يكفرون الأقباط في ميكروفونات المساجد وفي تلفزيون الدولة نفسه، شاهد هذا الحديث علي يوتيوب، ضع إسم اللواء في آلية البحث في يوتيوب ولابد ستعثر عليه، وأقرأ التعليقات أيضاً لتعرف تاريخ وطنك.

 

هذا الرجل القامة الكبيرة قال هذا الكلام في العام الماضي 2016 وهو في الخامسة والثمانين من عمره، يتكلم بعقل وحكمة ووعي وذاكرة لا نجدها في الكثيرين من الأجيال التالية له وإلي اليوم. 

تحية للبطل المصري ألفريد اللواء باقي زكي يوسف، أبقاك الله لنا قيمة ومثالاً أيها الكبير في كل شييء. 

 


قيل بعد نصر أكتوبر مباشرة أن أهمية نصر العبور العظيم ليست عسكرية فقط، لكنها معنوية أيضاً، لأنها تدشن عبور المصرييين من مرحلة الشك في الذات بعد هزيمة 67 الفادحة إلي مرحلة إستعادة الثقة في النفس، إستعادة فكرة قدرة المصريين علي المبادرة والفعل والنصر بعد تدبير وتخطيت وتنفيذ بمهارة وقدرة فذة تفوقت علي أمثالها في التاريخ الحديث للشعوب كلها وليس العربية أو الشرقية فقط، وذلك بشهادة القادة العسكريين الذين يدرسون ما فعله المصريون في حرب العبور في المعاهد والأكاديميات العسكرية في العالم كله.

ثم عاد المتشككون يشككون مرة أخري في قدرات الشعب المصري، قائلين أن نصر أكتوبر لم يكن نصراً بل كان خطة أو مؤامرة بين السادات والأمريكان، وهذا الكلام هراء صرف بل إهانة للعقل ولكل من يعقل، ثم قالوا أنها فعل شاذ يمثل الخروج عن القاعدة وليس القاعدة نفسها، وأنها لهذا فعل لا يمكن أن يتكرر.

 

معجزة ثورة شباب يناير 

ولكن بعد أقل من أربعين عاماً قام المصريون بمعجزة أخري حين قام الشعب الأعزل وبمفرده بلا سلاح وبلا تنظيم بالثورة علي أحد أبلد وأسوأ الحكام في تاريخ مصر وهو حسني مبارك، ولم تستطع قوات الشرطة أن تقمع ثورة الشعب طوال أربعة أيام حتي استسلمت في اليوم الخامس المسمي جمعة الغضب، ورأت القيادات العسكرية للجيش المصري الوطني دائماً ما فعله الشعب وأدركت أن دورها لا يكمن أن يكون في الدفاع عن حاكم فقد شرعيته وظل في السلطة بالتزور ثلاثين عاما ثم راح يرتب أن يورث مصر لإبنه من بعده وكأنها عزبة. 

وقف العالم مندهشاً وهو يشاهد علي شاشات التلفزيون الثوار المصريون يقفون أمام طاغية يريد استعبادهم هو وعائلته بلا نهاية ولا إحساس، وقد إنهارت في عهده كل المؤسسات والخدمات الإجتماعية من تعليم وصحة إلي إسكان وطرق وزراعة وصناعة، حتي سقطت مصر إلي قاع الدول في كل المقاييس العالمية.

المتشككون لا يريدون الإعتراف بقدرات الشعب المصري فراحوا بسرعة يخترعون ويلفقون أسباب نجاح الثورة، بل قالوا أنها ليست ثورة، وقالوا ما قاله مبارك من أنها صناعة أمريكية لأن الثوار كانت تصلهم الفراخ الكنتاكي في الميدان، وقالوا خرافات وأكاذيب أخري لم تثبت إطلاقاً ولكن جاءت في الفيسبوك فصدقها من يريدون تصديقها، منها وصول الملايين إلي الثوار في الميادين من أمريكا ومن اوباما بالذات لمناصرة الإخوان، وكأن الإخوان هم من قام بالثورة، ونسوا أن اوباما كان في البداية يريد بقاء مبارك مع بعض الإصلاحات ولكن ما أن رأي صمود الشعب حتي يوم الجمعة حتي عرف أن لا أحد سيقدر علي الوقوف أمامه فغير موقف أمريكا وأعلن مناصرة الثورة، وعموماً موقف أمريكا لا يهش ولا ينش في مثل هذه الثورات الشعبية الهائلة فليس لديها قوات علي الأرض وحتي لو لديها لما انتصرت.

وللأسف يخلط البعض بين وصول الإخوان إلي الحكم بعد عامين من الثورة وبين الثورة نفسها، ولكن ما فعلته الثورة هو منح الشعب فرصة للديمقراطية الحقيقية، وكان أن أراد الشعب أن يجرب التيار الديني فاختار ممثلين من  الإخوان والسلفيين لأول مجلس شعب ديمقراطي حقيقي في مصر بنسبة 75%, هذه حقيقية ولا معني لإنكارها، ولكن من فوائد الديمقراطية أنها تكشف كذب الكاذبين، فرأي الناس فشل وتفاهة الممثلين من هذا التيار الديني بأعينهم علي شاشات التلفزيون، وشاهدوا مذهولين كيف خرج الدعاة في التلفزيون يقولون أن الله لم يحرم زواج الأطفال، وبقية ترهات هذا التيار الرجعي البائس، ثم تراجعت شعبية التيار الديني، أيضاً بسبب الشفافية التي توفرها الديمقراطية، من 75% وقت إنتخابات مجلس الشعب التي اسمها أحد الدعاة "غزوة الصناديق" إلي حوالي 50% فقط حين صوت حوالي نصف الشعب للاخواني محمد مرسي، ولم تمضي سنة أخري حتي رأي الشعب تهافت وفشل وضعف التيار الديني مرة أخري ممثلاً في أحمد مرسي الذي كان لا يفعل شيئا إلا بعد إستشارة مرشد الإخوان، وحين تعدي مرسي علي الدستور هب الثوار مرة أخري، هذه المرة بمساندة الجيش الذي قال وزير الدفاع الفريق السيسي وقتها أن الجيش لا يمكنه فعل أي شيء إلا إذا خرج الشعب أولاً. وفعلا خرجت الملايين مرة أخري إلي الشوارع ضد التيار الاخواني لأول مرة في التاريخ منذ قيام هذه الجماعة في 1923 

أي أن الطريقة الوحيدة التي استطعت بها مصر أن تتخلص من سرطان الفكر الاخواني كان عن طريق منح الشعب حرية اختيارهم واختبارهم ولما فشلوا طردهم، بينما كانوا في عهد مبارك يرتعون ويمرحون وهو في تصلت كامل علي النقابات والإتحادات والجامعات والمساجد والمدارس والشارع المصري كله.

الديمقراطية التي أتت بها ثورة يناير هي وحدها من خلص مصر من الاخوان.

 

ثورة يناير: نصر أم هزيمة؟

ولكن المتشككين لا يكفون عن التشكيك في قدرة الشعب المصري علي صنع المعجزات. فحتي حين يتعرفون أن ثورة يناير كانت فعلاً ثورة شعبية عظيمة يعودون ويقولون أنها كانت ثورة لكنها فشلت لأن القيادات التي قامت بها انتهي أمرها إما إلي السجن أو إلي فقدان الشعبية والتشويه لسمعتها.

ولكن التوصيف الأدق لما حدث هو أن ثورة الشباب في يناير قد نجحت في إثبات أن الشعب قادر علي إسقاط النظام إذا ما أراد ذلك، وأن المرحلة الأولي منها - في 25 يناير - قد حققت هدف تأكيد قدرة الشعب في ازاحة الفرعون لأول مرة في تاريخ مصر الطويل، وهو نجاح هائل بكل المقاييس، كما صرح كافة زعماء العالم الواعون بالتاريخ وبديناميكية الثورات.

 

وكانت المرحلة الثانية من الثورة، في 30 يونية، لا تقل نجاحا لأنها أثبتت قدرة القطاع القائد في الشعب، أي الطبقة الوسطي المتعلمة الواعية، علي الفضح السريع لتهافت الخطاب الديني الإخواني وسقوطه بسقوط الإخوان، ورفع الثوار  لافتة ضخمة في شارع محمد محمود تعلن سقوط الإخوان، وهذا يحدث شعبياً لأول مرة منذ تكوين الجماعة عام 1923, ثم خلع الشعب والجيش مرسي، في تأكيد للمرة الثانية قدرة الشعب الهائلة علي ازاحة من لا يريده من الحكام، وقد قال السيسي عدة مرات للشعب اخرجوا حتي يمكن للجيش أن يساندكم، فهو يعلم أن بدون خروج الشعب في مدن مصر لا يستطيع الجيش شيئاً.

المرحلتان الثوريتان إذن قد نجحتا في تأكيد قدرة الشعب علي طرد أي حاكم لا يرضي عنه، وهذه مرحلة أولي هامة لأي ثورة. أما المرحلة التي لم تتحقق بعد فهي تأسيس الديمقراطية، وهذه تتطلب سنوات من المحاولة والفشل والتغيير في التعليم والثقافة، وهو أمر قد يقع بعد سنوات. كون أن بعض قيادات الثورة هي حاليا في السجون لا يعني إطلاقاً أن الثورة قد فشلت، بل هو تطور طبيعي لمسيرة الثورات في التاريخ.

الثورة الفرنسية أيضا انتهي مصير من قاموا بها إلي المقصلة، علي أيدي الثورة المضادة، هذه دورات تاريخية ممكنة ومحتملة الحدوث جداً، والثورة الفرنسية لم تحقق اهدافها النهائية، التي هي تمكين الإرادة الشعبية الحرة والديمقراطية، لم تصل إلي هذا سوي بعد أكثر من ثلاثين عاما، كان الدكتاتور نابليون قد قام خلالها بالاستيلاء علي السلطة ثم إشعال الحروب من أجل "مجد فرنسا".

إذن القراءة الصحيحة لما قام به الشعب المصري هو أن ثورته نجحت مرتين، في مرحلتين متتاليتين في أقل من ثلاثة اعوام، وهو الآن، في المرحلة الثالثة، يجرب إرساء الديمقراطية، وهو أمر صعب جداً في مجتمع ترتفع فيه الأمية والدروشة الدينية، ولكن من قام بمعجزة العبور في 73, ثم معجزة ثورة يناير في 2011  ثم يونية في 2014 قادر علي صنع المعجزة الثالثة مع الوقت، وهي إرساء الدمقراطية السليمة، حتي لو إحتاج التاريخ إلي نصف قرن آخر، فمصر هي أقدم دولة مركزية علي الأرض، كانت تحكم بنظام الإرادة الفرعونية حيث الفرعون نصف إله، وهناك مصريون ما زالوا ينظرون للحاكم المصري بهذه النظرة التأليهية، وهي نظرة عدوة للديمقراطية التي لا يجيء فيها الرئيس سوي بالإرادة الشعبية، ولا يحكم سوي بالرضى الشعبي، ولا يستمر بعد فترته الدستورية دون محاولة لتغيير الدستور.

هذه هي الديمقراطية التي تستحقها مصر، والتي قامت من أجلها ثورة هائلة علي مرحلتين، وما تزال الثورة مستمرة.