((الرجل والطريق )) هى الرواية الثانية للأديب سعد مكاوى والتى حاول بها ان يشكل عالما روائيا مغايرا يختلف فى سماته وجزئياته وشكله ومضمونه عن روايته الأولى ((شهيرة )) التى كان بناؤها الفنى يعتمد على المذكرات اليومية التى ينتقل خلالها الحدث ليعبر عن واقع مستمد من بيئة فنية متهرئة فاسدة .
وتعد رواية ((الرجل والطريق )) من الأعمال التى رسمت خطى الواقعية على الرغم من أنها تحمل كما كبيرا من الرومانسية جاء من خلال رؤية فنان تشكيلى يبحث عن الجمال النفسى والجمال الروحى وسط احباطات المجتمع وواقعيته الفجة . على عكس ما تضمنته رواية ((شهيرة )) مع انها كانت رواية رومانسية الا انها تضمنت بعض الجزئيات الواقعية التى جاءت فى نسيج الرواية لتحدد مفهوم التطور لصالح الواقعية الذى كان سعد مكاوى وكل جيله يسعى من أجل احلالها محل الرومانسية التى كانت تعالج مشكلات الفرد وحده من خلال ذاته وطموحاته وعاطفته .
والروايتان تمئلان هذا التأرجح الذى بدت فيه الرواية والقصة القصيرة خلال مرحلة النضوج ما بين الواقعية والرومانسية والمحاولات التى كان يبذلها بعض المجربين فى مجالات القصة وارواية والتى تمخضت فى فترة الستينيات , واذى كانت سماته هى التنوع فى الاشكال الروائية والقصصية بما يخدم الشكل والمضمون وان كان الاحتفاء بالشكل هو سمة هذه المرحلة المتميزة . وعلى الرغم من ان رواية (( الرجل والطريق )) صدرت عام 1963 أى فى نفس الوقت الذى كان جيل الستينيات بطموحاته ومحاولاته الرائدة فى التجريب قد بدأ ابداعه واستخدامه لكل الأدوات المتاحة فى التعبير القصصى والروائى . الا ان هذه الرواية جاءت لتحدد مفهوما ان سعد مكاوى كان ضمن كوكبة من المبدعين لم يركبوا موجة التجريب التى كانت سائدة فى هذا الوقت , انما ظلت الأشكال التعبيرية عندهم أشكالا محدودة الاطار تأخذ من القديم والحديث على السواء ولكن بمقدار , يدل على ذلك طبيعة المجموعات القصصية والروايات التى ظهرت خلال تلك المحنة والتى احتفظت بخصائص المرحلة السابقة .
■ ■ ■
تعتبر رواية ((الرجل والطريق )) أحد روايات الأصوات التى تعبر عن عالم هذا الفنان التشكيلى الذى يعيش فى هذه القرية والذى يحتل صوته وشخصيته معظم نسيج الرواية , وهو من أسرة ارستقراطية حسب ما صوره الكاتب , تملك زمام الارض مسموعة الكلمة مرهوبة الجانب الا من بعض الحاقدين عليه لاعتبارات التعليم والشباب والمال وتحتل بعض الأبعاد السيكولوجية بنية الرواية من خلال ما يحكيه هذا الصوت العالي فى الرواية وهو صوت الراوى وتغلغل الكاتب فى أعماق شخصيته وتحليله لأبعادها ومن خلال بحثه الدءوب عن مجتمع أفضل يحققه ويشارك فى بنائه .
نجد ذلك فى تلك الحيرة التى استبدت به بعد رحيل زوجته وذكراها التى تتملكه أحيانا خاصة وهى شريكة المائدة والفراش على الرغم من انه كان لا يربطه بها سوى العشرة والألفة المنزلية فقط . الا أنه حين نزلت الى قبرها تلفقها هو بيديه ووسدها لحدها (1) :
نزلت قبلها الى قبرها مع الحانوتى وركعت فيه وتأملته فى استيعاب ثم سوى يداى الرمل الرطب الذى يكسو أرضه قبل ان تلتقيا مع يدى الحانوتى المحترف ذلك الجسم الغض المحجوب الكفن , فوسدناه الأرض وتركناه وخرجنا ,, وترتد الذكرى فى نفس الراوى بعد انتهاء واجب العزاء ويجتر ذكرياته مع ( فاطمة ) ولكن حالته النفسية التى نجمت عن وحدته خاصة بعد رحيل زوجته كانت هى المفجر لهذه المأساة التى يعايشها كلما جد جديد فى البيئة المحيطة به )) (2)
استولت على فى سكون الليل حالة من الرعب لا معنى لها , اذ تصورت فاطمة تصحو من غيبوبة طويلة خدعتنا بقناع الموت المهول , فتجد نفسها فى ظلمة المحبس العجيب , وتصورتها وعشت معها فى جنونها الفظيع وزئيرها المسترحم وكل شناعة ميتتها الثانية . (( ولا شك ان هذه الجزئيات النفسية التى حفلت بها بنية الرواية جاءت محققة لتحليل شخصية الراوى تمهيدا للسير بها نحو استكشاف المجهول بعد ذلك .. ومحاولته فرض واقع خيالى يبنيه ويستشرفه مما حوله من شخوص واحداث وهو أمر تكرر فى أجزاء الرواية وقد وظفت هذه الجزئيات للتعبير عن رفض شخصية الراوى لوجه الموت والقبح وترحيبه الدائم بالخير والحياة . اذ أطل الموت فى أنحاء العمل ليؤكد حكمته التى لا تنتهى ولتؤصل مفهوم هذه الرواية التى تنداح فى نهايتها عن فلسفة الوجود ومظاهر البقاء والتواصل من خلال التحول الذى طرأ على شخصيات الرواية ( شخصية صفاء مثلا ) والذى ظهر فى النهاية حرا طليقا بعد ان كان مكبلا بمظاهر الحية والجنون . نجد ذلك فى حادثة الشيخ عبدالرحيم الذى مات مرتين . مرة قبل ان يقبر ومرة أخرى وهو فى قبره ) (3) :
■ ■ ■
وما أن انكشفت فتحة القبر حتى شهقت حلوق الناس بشهقات الرعب وانطلقت حفيظة تجرى فى الحقول التى تتوسطها الحانة مخبولة , رأوا فى مواجهتهم ولصق فتحة القبر تماما هيكلا لا تزال مزق من كفنه تتدلى من عظامه , مقعيا ومشهرا فى الوجوه عظام أصابعه النحيلة , وجمجمة مطلة , وكانت ليلة عاشها بلدنا الصغير (( كذلك ترحيبه الدائم بمظاهر الخير والجمال من خلال ابراز بعض القيم الجمالية التى تجسدها بعض الشخصيات كرفض أبو العهد الشال والقفطان من اتباع هارون وضابط النقطة لنصرة هارون فى الانتخابات (4) :
فقال هارون نفسه وهو يجاهد غضبه ان تتوضح فى وجهه أو فى صوته , ماهذا الكلام يا أبو العهد ؟ نعرف كلنا ان حولك تجمعا وان فى مستطاعك ان تسيطر على سبعين صوتا أو ثمانين ان أردت . فاجبته وانا امتحن المسافة بينى وبين البوابة , ان الذين يحبوننى ليسوا أصواتا يا سيدى البك بل ارواحا متحابة فى الله وحرة . وهنا انبرى لى الفتى ضابط النقطة فى سطوة رجل الادارة : اليسست أسماؤهم فى كشوف الاقتراع العام ؟ فألقمته الرد فى الحال : الكشوف عندكم يا حضرة الضابط
وتمتد أجزاء الرواية فى تعاقب الاحداث واهتمام بالجزئيات الحياتية للشخوص وهى سمة أمتدت عضويا من نسيج الرواية الأولى (شهيرة )
بحيث ان سمات التسجيلية فى الرواتين كانت تغلب على أجزاء الحدث بما يتلاءم مع منطق الحدث منذ البداية وحتى النهاية .
وموضوع الرواية يبدأ بهذه الخواطر التى تراود ( حسن بك ) الشخصية المحورية للرواية من خلال هذا المونولوج الداخلى الذى تتداعى له بأيدى مجهولة . وأن كانت أصابع الاتهام تمتد اليه لكراهية شديدة تجمعهم منذ زمن بعيد ويعرفها القريب والبعيد (5) :
مزقته فى خواطرى المكبوته وفى لوحاتى المجهولة التى رسمته فيها بغلا وذئبا ودوده , وحاول هو أيضا أن يمزقنى فى مجالسه , أو يخرجنى باستعلائه المتعجرف فى المناسبات القليلة التى تجمعنا مرغمين لتهنئة أو عزاء , فى الريف الذى لابد أن تلتقى فيه الوجوه . وتستدعيه أرملة هارون لمقابلته ويعجب هو لهذه الدعوة المفاجئة والغير متوقعة ويشتد عجبه حين تطلب منه أن يدعو صديقه الدكتور شعبان لعلاج ابنتها صفاء التى سقطت مريضة منذ ان علمت بمقتل ابيها . ويحضر الدكتور شعبان صديق حسن ويبدأ علاج ابنة هارون والتى يكشف ان (جاد المولى ) مفتش التعليم الأولى وهو شخصية نفعية خالية من القيم والمبادئ يريد الزواج منها . وقد كان حسن يعتقد ان (صفاء) ابنة هارون وجليلة فتاة ورثت عن ابيها وأمها صفحات الضحالة والجهل والكراهية للناس الا ان الدكتور شعبان ينقل اليه صورة مغايرة (6)
ما أعجب رقتها الفذة , شئ يقف أمامه الطلب حائرا ان شئت حقيقة , فهى قبل كل شئ عليلة علة فى النفس تطبعها النفس فى الجسد سقما وضنى
■ ■ ■
لا بل هى طيف رقيق , شئ لا أكاد أصدق وجوده فى الدنيا شعاع فى قمقم . يا لهزة نفسى عند وسادتها ..
وانى لا أفهم كيف يسع أى أم ولو كانت جليلة التى تعرف حقيقتها ان تكون سجانة لأبنتها المسكينة التى طبعت فى نفسها حب الانزواء الى هذا الحد المخيف ))
ويقوم حسن بزيارتها ليتعرف بنفسه على مقولة الدكتور شعبان من باب الفضول وحب الاستطلاع وتحاول جليلة ان تقرب بين صفاء وحسن . وتظهر شخيصة مصطفى العقر وهو عشيق جليلة والقاتل الحقيقى لهارون والذى يحاول أن يبذر الشر فى مجتمع القرية خاصة ما يرتبط بمصالحه الشخصية فى الاستحواذ على جليلة وابنتها وأملاكهم حتى انه يضع السم للحصان , حصان حسن بك (سرحان )
ويحاول مرة أخرى ان يضع السم للحصان الآخر (آدهم ) ولكن يكتشف أمره فى آخر الامر فى طنطا وفى خلال هذا الصراع تطل بعض الوجوه المضيئة المتمثلة فى وهيبة الفتاة الغجرية التى نزلت فى بيت حسن بك فاكرم وفادتها وكان ذلك سببا فى ان تبتعد عن طريق الضلال . وكذا شخصية سعدية المرأة النوبية التى عملت فى منزل حسن بك مدة طويلة والتى رعته منذ الصغر حتى شب عن الطوق مع ابنها سعيد الذى غرق فى الترعة فوهبت حنانها كله لحسن الصغير . ولازالت ترافقه فى سنى حياته من خلال عملها كمديرة لمنزله كذلك شخصية أبو العهد وآدم اللذان يمثلان وجهان مضيئان فى حياة شخصية حسن بك والذى يتولد الحوار معهما عن جزء من القضية الأساسية للرواية وهى محاولات ابراز جماليات الشخصية الخيرة وسط ظلام الشر من خلال استخدام عنصر المفارقة الذى يؤصل هذا النوع من القص , كذلك كذلك تواجدت شخصيات شريرة منذ بداية الرواية لتدعم هذه المفارقة التى يحتفى بها سعد مكاوى فى رواياته خاصة حينما يبرز الصراع الدائر بين الخير والشر . وابراز شخصية هارون الذى قتل بيد أحد أعوانه (مصطفى العقر ) الذى كان أحد الشخصيات المؤثرة فى تحريك الحدث تماما مثل شخصية هارون الذى ظهر فى استهلال الرواية حاضرا وغائبا فى نفس الوقت حاضرا فى المونولوجات الداخلية التى كانت تمثل كثيرا من محاور الرواية خاصة حينما يتواجد حسن بك فى منزل هارون ويجلس امام صورته والذى كان يصور بها شخصية هارون وكأنه أحد الشخصيات الاسطورية المليئة ببذور الشر والعفن والتهرؤ , أما الشخصيات الشريرة الأخرى باهتة الى حد كبير وان حاول سعد مكاوى أن يدعم الحدث وان جاءت على عكس ما يريد فهى شخصية (جاد المولى ) مفتش التعليم الأولى الذى جاءت شخصية باهتة الى حد كبير وان حاول سعد مكاوى ان يدعم بها الحدث بجانب الشخصيات الأخرى وأن حاول أن يبرز تفاهتها من خلال هذا النشيد الذى كان كان يتردد على ألسنة التلاميذ أى مدرسة يزورها جاد المولى بحكم وظيفته كمفتش للمدارس الأولية
■ ■ ■
كذلك نعته بأوصاف تقريرية عن خسته وشذوذه وعلاقته الفاسدة بأسرته وتنكره وعقوقه لوالديه على الرغم من بسطة العيش الذى يمرح فيها . وعلى الجانب الآخر نجد ان هناك شخصيات رئيسية ظهر عليها لو من ألوان التحول وان كان كان غير مبررا التبرير الكافى وهى شخصية (صفاء ) ابنة هاون وجليلة , وهى شخصية تنضم الى الشخصيات الخيرة فى الرواية على الرغم من نشأتها وانتسابها الى بيت هارون صاحب الحول والطول فى الفساد والاجرام وجليلة الراقصة التى كانت لياليها فى الموالد حديث المجالس والموائد . حتى ان حسن بك حين يحادث الدكتور شعبان عنها يقول له ( وهل تكون بنت جليلة وهارون سوى مسخا ) وتحاول امها بعد مقتل أبيها انتشالها من براثن مرضها ووهمها وانقاذها مما هى فيه وكأن الأم تحاول اصلاح خطأها الذى سبق ان وقعت فيه بعد ان انتقلت من مجتمع الراقصات والرذيلة الى مجتمع الفلاحين بتقاليده
وعاداته وقيمه ولكن مع شئ من جاهليتها ان صح التعبير . حتى انها تقع فى براثن مساعدة زوجها (مصطفى العقر ) بثعانيته ومكره ودهائه وتستيقظ فى الأم كوامن الأمومة الفطرية وتستدعى عدو زوجها (حسن بك ) الرجل المثقف لينقذ ابنتها بل وتحاول بشتى الطرق ان تقرب بينهما . حتى تفلح أخيرا ويتقدم حسن بك لخطبة صفاء وينجح فى انتشالها من مرضها عن طريق التعرف على ميولها الرومانسية وان يضرب على هذا الوتر الحساس بمدها بالكتب والدواوين واسطوانات كبار الموسيقيين العالميين وهى الاشياء التى توافق ميولها ( تظهر فى هذه الجزئيات بعض مصادر الرومانسية من خلال احتفاء الكاتب بمفردات لا تتوفر الا عند الخياليين العاطفيين من البشر ) ...
وهكذا نجد بواكير الرواية عند سعد مكاوى والتى جاءت بعد اكثر من تسع مجموعات قصصية . جاءت من منطلق التحول من نطاق الرومانسيات الى الدخول الى عالم الواقعية من هاتين الرواتين ( شهيرة ) و(الرجل والطريق ) الا ان عالم الرواية عند سعد مكاوى بعد ذلك عرج الى طريق جديد يستمد منه موضوعاته وهو الموضوعات التاريخية التى رد أصولها جرجى زيدان وفريد أبو حديد وغيرهم من المبدعين والذى أمثال على باكثير وسعيد العريان ونجيب محفوظ وعادل كامل ونجيب الكيلانى وجمال الغيطانى وغيرهم .....
وتعدد روايات المحنة التاريخية عند سعد مكاوى والتى كانت نتيجة انتقاله من المرحلة الرومانسية الى الواقعية تتويجا لهذا الانتقال حتى ان المستعرض لروايات هذه المرحلة وهى ((السائرون نياما والكرباج ولا تسقنى وحدى ) يجد بها علاوة على جوهرها التاريخى من ناحية المضمون بعض الادوات الرومانسية المستخدمة والتى لازالت متواجدة فى صلب الابداع الروائى لسعد مكاوى كذا يجد الواقعية التاريخية التى حاول فيها الكاتب توخى الصدق الفنى الذى يقترب الى حد كبير من حدود التسجيلية خاصة فى رواية (الكرباج ) التى صدرت عام 1985 .