إهداء إلى الإبنة الصديقة سهير يوسف صديق التي أهدتني هذا الكتاب الهام في تاريخنا الحديث .. لقد كان يوسف الصديق جاراً وفياً وكان وطنياً وطنيا شجاعاً وكان جنديا جريئاً وكان ثائراً عميق الولاء لوطنه مصر .. وطننا جميعاً.
عن الهيئة المصرية العامة للكتاب تصدر هذه السلسة إلهامه والجادة التي يشرف عليها الدكتور عبد العظيم رمضان الذي يسجل لنا على الغلاف الآخر لماذا اهتم بنشر "أوراق يوسف صديق".
"هذا الكتاب مهم جداً عن بطل مصري حر هو القائقام يوسف صديق، الذي كان له الدور الأول في نجاح ثورة 23 يوليو، إذ كان هو أول من أطلق شرارتها وأكثر من حافظوا على مبادئها التي قامت عليها"
وفى "الحلقة الخامسة" من مذكرات خالد محي الدين في "الأهرام" عدد 19 ديسمبر 1992 يحدثنا خالد محي الدين عن دور يوسف صديق في ثورة 23 يوليو 1952، وهو على أبواب مقر قيادة الجيش "فقد اقتحم بقواته الدور الارضى وقام بتفتيشه، ولم يكن به احد وصعد هو وجنوده، حاول أن يفتح باب مكتب رئيس الأركان لكن الباب كان مغلقا، وكان البعض من الداخل يحاول منعهم من فتح الباب. أمر يوسف صديق جنوده بإطلاق رصاصهم على الباب واقتحموا الغرفة ليجدوا اللواء حسين فريد رئيس أركان حرب الجيش واللواء حمدي هيبة وضابطا آخر يرفع منديلا ابيض.. وجلس يوسف صديق على مقعد رئيس أركان حرب الجيش، وبدأ يصدر أوامره من هناك. ولعل جلسته هذه تعنى الكثير."
ويسجل خالد محي الدين هذه الحقيقة التاريخية:
"وبهذا المعيار يمكن القول أن يوسف صديق قد حقق عملا تاريخيا هاما، وانه قد أسهم بشكل كبير ومباشر في إنجاح حركتنا. وقد كانت شجاعته الحاسمة والآسرة فى آن واحد عاملا من عوامل نجاحنا"
في الفصل الثاني من "أوراق يوسف صديق" وهو أهم واخطر فصول الكتاب إذ يحتوى على مذكرات يوسف صديق تحت هذا العنوان الدال عميق الدلالة "ليلة عمري" نقرأ:
"على الدرج الحجري الطويل الذي يتصدر مبنى القيادة العامة، جلست وجلس حسن احمد الدسوقي بجانبي.. ساد جلستنا صمت لبعض الوقت، قطعته بتساؤلي:
"هل تعلم سببا لتأخر القوات الأخرى عن القيام بدورها؟"
فأجابني حسن أنها لم تتأخر ولكن أنت الذي تقدمت، فلم تكد تحين ساعة الصفر بعد.
وسألته في عجب:
"كم هي ساعة الصفر فيما تعلم؟"
فأجاب:
"أنها الساعة الواحدة من صباح اليوم (23 يوليو)"
ويقرر يوسف صديق "وكانت هذه هي أول مرة اعلم فيها اننى قمت قبل ساعة الصفر بساعة كاملة. ولقد كان الضابط (زغلول) الذي حمل لى ساعة الصفر وزغلول ضابط يعلم أن التقديم في الوقت كارثة كالتأخير تماما خصوصا إذا كان بوقت طويل.
فساعة كاملة تعتبر وقتا طويلا فى مثل هذه الظروف" ويقول يوسف صديق وهو يحاول ان يصل الى هذا السر وراء حرص زغلول عبد الرحمن أن يحمل ساعة الصفر المتفق عليها:
"ومع ذلك فانه (زغلول) حضرني وأنا اجمع ضباطي قبل انتصاف الليل واصدر إليهم اوامرى، ثم رآني وانا استولى على اللوارى واضع جنودي فيها بعد ان خطبت فيهم، فكشفت لهم عن العمل الكبير وهيأتهم لاستقباله ولم يحرك ساكنا، ولم يعترض على هذا التبكير... كل ذلك جعلني اعتقد اننى تصرفت حسب الخطة الموضوعة واننى تحركت فى موعدي المحدد" ويعلق يوسف صديق.. ومعه كل الحق:
"اذهلنى الخبر الذى سمعته من حسن احمد الدسوقي بتحركي قبل الموعد المرسوم بساعة كاملة.. وجعلني استغرق فى صمت طويل محاولاً أن استعيد فيه أحداث تلك الليلة العجيبة".. ثم يقرر أخيرا.. ومعه كل الحق ايضا:
"لقد تحركت قبل الموعد بساعة كامله، ومع ذلك فاننى كنت ادفع الخطر من على الابواب"
وفى هذا الكتاب نقرأ ماكتبه نبيل زكى تحت عنوان "التاريخ المظلوم"
"فى متحف القلعة توجد قاعة مخصصة لتاريخ ثورة 23 يوليو 1952. تحتوى القاعة على تماثيل نصفيه لأعضاء مجلس قيادة الثورة.. ومما يلفت النظر انه لايوجد بين هذه التماثيل تمثال لعضو قيادة الثورة البكباشي يوسف منصور صديق رغم ان الرجل كان من ابرز أبطال تلك الثورة واكبر المساهمين فى نجاحها.. ومما يلفت النظر أيضا ان يوسف صديق لم يرد فى قائمة أسماء الضباط الأحرار المعروضة بالمتحف" ويسجل لنا نبيل زكى اعتراف جمال عبد الناصر بدور يوسف صديق"
"ان قائد الثورة نفسه –جمال عبد الناصر- تحدث فى خطابه الشهير عام 1962 فى ذكرى الثورة عن دور يوسف صديق بكل تفصيلاته فى نجاح الثورة وقال "انه لولا خروج كتيبة يوسف صديق من معسكر الهايكستيب قبل ساعة الصفر بساعة واحدة لكانت الثورة قد فشلت" وتسجل لنا " بهجة حسين " هذه المفارقة عندما لم نجد تمثالا للبطل يوسف صديق فى المتحف الحربي " حيث رسم الفنانون الكوريون الذين اشرفوا على أعمال المتحف لوحة زيتيه تتصدر القائمة ( الخالية من اسم يوسف صديق) تصور لحظة اقتحام يوسف صديق لمبنى قيادة الجيش"
ويحدثنا يوسف صديق فى " ليلة عمري" عن ساعة الصفر التى حملها رسول القيادة زغلول عبد الرحمن.
".. انفرد بى زغلول وأفضى الى بآخر الاوامر، وكانت تحتوى على ساعة الصفر (منتصف الليل) وكلمة السر (نصر ) كانت هذه الرسالة التي حملها زغلول..وقابلت زغلول كثيراً بعد ذلك وبعد نجاح الثورة فكنت اسأله عن حقيقة ساعة الصفر التي بلغها. فكان يبتسم ولا يجيب"
وكم كنت أتطلع أن استمع إلى زغلول عبد الرحمن وهو يجيب على تساؤل يوسف صديق.. وبقى زغلول عبد الرحمن مع يوسف صديق حتى منتصف الليل.. ويقول يوسف صديق:
"وعند منتصف الليل كنا جاهزين للتحرك فى ساعة الصفر تماما"
وفى الطريق تم هذا اللقاء غير المتوقع بين يوسف صديق وبين جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر فى ملابس مدنيه. وقال جمال عبد الناصر "إن أمر الحركة قد انكشف للملك الذي كان يصطاف في الاسكندريه. وانه تم الاتصال بالقيادة فى القاهرة، وان هذه القيادة مجتمعه في مقرها لاتخاذ إجراء مضاد " وكان رد يوسف صديق "فشكرته على هذه المعلومة الجديدة، وأخبرته اننى كنت قد قررت احتلال القيادة، واننى سأقوم بذلك فورا" وأسرعت الى عربتي فى مقدمة القوة"
وفى نهاية " ليلة عمري" يقول يوسف صديق:
"ان كل نجاح صادفناه فى تلك الليلة انما جاء نتيجة خطأ وقعنا فيه فى تدبيرنا فخروج ساعة قبل الموعد كان خطأ لاشك فى ذلك، فأن الخطة العسكرية توضع متماسكة متكاملة.. ولما كانت طبيعة الأمر تقول ان الخطأ يوصل الى الفشل، غير ان حوادث الليلة بينت بوضوح ان الخطأ لم يوصلنا الى النجاح فحسب، بل انه الحل الوحيد الذي بنى عليه النجاح"
ولكنى اقول وانا اختلف مع يوسف صديق ان نجاح الثورة لم يبن على خطأ.. بل ان هذا النجاح بنى على تخطيط وعلى خطه واضحة كل الوضوح فى عقل واضح هذه الخطة.. وكان اختيار يوسف صديق لهذه الخطة اختيار حكيم.
أقول وأرجو ألا أكون مخطئا.
أحاول أن أجيب هذا التساؤل:
"لماذا حمل زغلول عبد الرحمن الى يوسف صديق ساعة صفر متقدمه ساعة كاملة عن ساعة الصفر المتفق عليها؟"
مما لاشك فيه أن جمال عبد الناصر كان العقل المدبر والمخطط لحركة الضباط الأحرار.. كان يملك هذا الحذر وهذا الحرص وهذه المخاوف التي تصاحب مثل هذه الحركة الخطرة والمهددة بالفشل بسبب من أهون الأسباب. وكان يملك أيضا هذا القدر من الدهاء والذكاء مما أهله أن يكون المايسترو والقائد لهذه الحركة بكل تفاصيلها. فهو الذى اختار محمد نجيب قائدا لهذه الحركة العسكرية. وتحمل محمد نجيب –كما يقرر خالد محي الدين- المسئولية العسكرية والسياسية امام الجميع. وهو الذى كلف – فيما أرى- زغلول عبد الرحمن ليحمل ساعة صفر الى يوسف صديق.. متقدمه ساعة كاملة عن ساعة الصفر المتفق عليها.. ولهذا حرص زغلول عبد الرحمن على البقاء بجانب يوسف صديق حتى ساعة الصفر الخاصة به. وكأن تحرك يوسف صديق كان بمثابة التجربة البيضاء التى يجريها العالم فى معمله قبل الإقدام على احدي تجاربه الجديدة. ولحسن الحظ - حظ حركة الضباط الأحرار - ان جمال عبد الناصر اختار واعيا يوسف صديق ليقوم بهذه المهمة الانتحارية –طبعا بدون علم يوسف صديق –ولعل هذا التفسير يؤكده وجود جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر بملابس مدنيه.
اذا كان جمال علم ان فاروق قد وصلته أنباء حركة الضباط الأحرار.. وكان من الممكن ان يقبض على قادة الحركة جميعا وتفشل الثورة لو لم يتحرك يوسف صديق عن طريق جمال عبد الناصر( اى زغلول عبد الرحمن) قبل ساعة الصفر بساعة كاملة..
ولهذا اقول وانا مطمئن ان نجاح حركة الضباط الأحرار لم يبن على خطأ.. بل بناء على خطه محكمه وتخطيط دقيق..
ويعترف جمال عبد الناصر "انه لولا خروج كتيبة يوسف صديق من معسكر هايكستيب قبل ساعة واحده لكانت الثورة قد فشلت"
وعن "ليلة عمري" يقول يوسف صديق –الذي سعدت به جارا عزيزا من الزيتون فى الخمسينات
".. وقد بنيت أحداث تلك ان الدور المتواضع الذي قمت به كان له اثره المؤكد فى إرساء قواعد الثورة وذلك بضرب كل القوات التي حاولت إخماد الثورة –بالعمل المضاد- فى الوقت المناسب"
ويقول يوسف صديق.. الشاعر الثائر.. معبرا عن حياته وسلوكه كمواطن مصري صادق الولاء وعميق الانتماء لوطنه:
إنا وهبنا للجهاد نفوسنا
لا نبتغى رتبا ولا أطماعا
والمؤمنون المخلصون يزيدهم
ظلم الحوادث شدة وصراعا
وكان إهداء "أوراق يوسف صديق" "إلى الدكتور يوسف صديق محمود توفيق – حفيد يوسف صديق- الذي ولد في 4 يناير 1955.. وكان جده معتقلا بالسجن الحربي"
وقد اهدتنى الصديقة سهير يوسف صديق هذا الكتاب "أوراق يوسف صديق" فور صدوره عام 1999 عندما كنت فى القاهرة.
قرأت هذه الشهادة الصادقة كل الصدق وتوقفت طويلا عند "ليلة عمري" وبخاصه عند "ساعة الصفر" التي كانت البداية الحقيقية لثورة يوليو 1952.