إذا شئت الدقّة في تعريف المثقف العربي فإنّه المفهوم الموروث حتّى يومنا هذا ، ولكن لا بُدّ من اصطناع وخلق مفهوم جديد للمثقف والمفكر العربي يفكّكه من قيود النظرة الميتاتاريخية الأرسطية ، ويبعث أو يحيي في محتواها ومعناها الجوهري دلالات جديدة وتاريخية تُطابق الحركة الفكرية والثقافية العربية في الواقع الموضوعي الذي تعيشه الأمة .
إنّ الهوية الفكرية للمواطن العربي اليوم في أشد أزماتها المزمنة والفائقة الخطورة في العالم العربي ، بل وتزداد يوماً بعد يوم تعقيداً وإستعصاءً .
ولو أخذنا على سبيل المثال وليس الحصر فإن العالم الغربي بعد قرن كامل ونيّف من التعامل معه بوصفه الخصم اللدود أو العدو التاريخي للأمة ، أصبح الشقيق المحبب في الوطن والأمّة ، الذي يتدخل عميقاً في تسيير الكثير من توجهات ومصائر الأمة وأنظمة الحكم وفق مصالحه ، لأن مراكز القرار في الأمة ، نائمة ، وتأبى أن تستيقظ .
إنها فضيحة ومفارقة وكارثة .
المفكر والمثقف والمواطن العربي معجب بما يُشاهد في الغرب من علوم متقدمة ومهارات مصقولة وقدرات إنتاجية وإبداعية مذهلة لا متناهية ، قد لا توصف ، هو أيضاً أي هذا المواطن راغبٌ أيضاً في الإستفادة من كل الذي يُشاهد ، وهو في الوقت نفسه ممتعضٌ مما يلقى من الغرب من سلبية النظر الفكري تجاهه ، وممتعض بشكل أساسي من غبن التعامل السياسي بينه وبين أُمته .
فعندما يضمر أي مواطن شعورين متعارضين في جوفه إزاء فرد أو جماعة أو أية مجموعة أخرى وقد تكون أُمّة ، فإنّه مضطر للتعامل مع هؤلاء جميعاً وبالتالي يعيش أزمة فاعلة في مجرى التعامل مع الآخر .
هكذا ما تقول فعلاً نظرية نفسيّة عُرفت بتضارب المُدرك cognitive discordance التي ظهرت منذ أكثر من نصف قرن في بحوث علم النفس .
المواطن العربي مع الأسف يرى وضعه ووضع أمته على ضعف شديد إزاء الآخر ، \ الآخر الغرب - الآخر السلطة \ ، إنّه يرى الضعف في مكامن أمته الذاتية ، وهي قليلة الجدوى في تلبية متطلبات الحياة المعاصرة للشعب والوفاء بإستحقاقاتها الإنسانية والأخلاقية والقومية .
إضافة إلى ذلك فإنّه يُدرك بأن تلك السلطات السياسية مهملة في تعزيز وضعه القومي العربي وإنماء الحالة الحضارية للأمة .
ازاء كل هذه المطبات نرى المواطن العربي يتأزم ويتردد ويتقهقر ، فمن جانب يرى الأزمة التي تحاصر الشعب العربي وهو منهم ، ومن جانب آخر يعيش الأزمة التي يعيشها الشعب وهو يرى كل شيء بأُم عينيه .
إنّ إستمرار هذا الحال يستولد بالضرورة ومع مرور الزمن إنفصاماً في النظر ، ووهناً في القدرة الإبداعية للفرد وللأمة ، وذلك من خلال الفرز الموضوعي المنطقي الدقيق ، فإذا امتدت المدة الزمنية الخاصّة بالتأزم الفكري والثقافي والسياسي للمواطن العربي إنعكس الإنفصام الواضح بحيث يصبح السمة السائدة بين الجميع .
وسيتولّد عن ذلك الضعف بالثقة ، والتردد في اتخاذ أي موقف ، إضافة إلى تخبط الأداء وانصهار الإرادة الذاتية واضمحلال الإبداع الفكري والثقافي والسياسي .
لذا لا بُدّ من إستصلاح جذري لكافة المؤسسات الفكرية والثقافية والسياسية والاجتماعية لتواكب إنطلاقة وطموحات الجماهير العربية .
فالحديث هنا عن صحوةٍ من أجل النهضة القومية يأتي في الوقت المناسب قبل فوات الأوان ، ليستطيع تحمّل أعباء بناء جيل قادر ومبدع يكمن في صدره كل الولاء القومي والانتماء الوطني ، والعمل بكل اعتدال وتسامح لتحويل الآخر من عنصر فاشل معيق إلى عنصر فاعل ومعين لنهضة الأمة .
بحيث يبدأ المفكرون والمثقفون والمواطنون يفكرون بشكل أساسي في أوضاع الأمة ويعرضون أفكارهم السليمة بكل دقة ووضوح ، لبناء هيكل أمة سليم من كافة جوانبه السياسية والفكرية والاجتماعية والاقتصادية ، لأننا نؤمن وندرك تماماً أن الأمة التي لا يفكر بها قادتها ومفكريها ورجالها ومثقفوها وعلمائها ستنقاد بشكل أو بآخر ، وبشكلٍ قسري لما يفكر لها الغرباء ، أو الأعداء . !