حسني حنا يكتب : سوريا الطبيعية وإشكالية الهوية

حسني حنا يكتب : سوريا الطبيعية وإشكالية الهوية
حسني حنا يكتب : سوريا الطبيعية وإشكالية الهوية
 
" هزمناهم ليس حين غزوناهم ، بل حين أنسيناهم تاريخهم وحضارتهم ".
 * Simonides 
 
يقصد به ( سوريا Syria ) الاصطلاح العام، الذي استخدمه اليونانيون القدماء للدلالة على المساحة الواقعة بين جبال طوروس شمالاً، والصحراء العربية جنوباً ونهر الفرات شرقاً والبحر المتوسط غرباً وهذه الحدود ذكرها المؤرخ اليوناني الشهير (هيرودوت Herodotus ) في تاريخه ، في القرن الخامس قبل الميلاد (انظر: تاریخ هیرودوت : الكتاب الأول ، فقرة 5 وغيرها ). 
وتشكل سوريا الجناح الغربي من ( الهلال الخصيب The fertile Crescent ) وكان المؤرخ الأمريكي (جيمس  هنري برستد J.H Breasted ) أول من عمم هذا الاسم ، على منطقة في الشرق الأوسط بدأت فيها الحضارة، وهي تشمل سوريا قبل التجزئة ( سوريا الحالية ولبنان والاردن وفلسطين وشبه جزيرة سيناء) و بلاد النهرين Mesopotamia حيث أن نهر الفرات لم يكن يوما حداً طبيعياً بين سوريا وبلاد النهرين، التي هي الجناح الشرقي للهلال الخصيب . بل كان صلة وصل بينهما.
 
سوريا الطبيعية 
من الأجدى أن نطلق على سوريا التاريخية اسم ( سوريا الطبيعية ) بدلاً عن سوريا الكبرى Salutari Syria . أو الهلال الخصيب وغيرهما لأن اسم سوريا الطبيعية يعبر عن الوحدة الجغرافية، ومن أقوال نابوليون بونابرت: "السياسة هي الجغرافية ابنة التاريخ، والتاريخ هو ابن الجغرافيا ، والجغرافيا ثابتة).
 تمتد سوريا الطبيعية على مساحة تزيد على مليون كيلو متر مربع. وقد كانت لها قديماً حدود مشتركة مع ایران شرقاً، ومع أرمينيا في الشمال، والبحر المتوسط، والمدن اليونان في بلاد الأناضول غرباً، والبحر الأحمر وشبه جزيرة العرب جنوباً ... وكان الجغرافيون القدماء ، يطلقون على البحر المتوسط اسم ( البحر السوري ) ونجد هذا الاسم أيضاً في الخريطة التي وضعها العالم الإدريسي عام (154م ).
وتتوسط سوريا ( البادية السورية Syrian stepp ) التي كانت دوماً معبراً للقوافل التجارية . وصلة وصل بين جناحي الهلال الخصيب، وقد ورد اسم (سوريا) في أقدم الخرائط والمدونات الجغرافية عند استرابون وبطليموس ، بل أقدم من ذلك .
 
 
 جغرافية سوريا الطبيعية ... إطار المكان
 ربما تكون الجغرافيا صماء ولكن ما أكثر ما كان التاريخ لسانها . فالتاريخ هو ظل الإنسان على الأرض . كما أن الجغرافيا هي ظل الأرض على الزمان .
 تتكون سوريا الطبيعية من ساحل يشمل الشاطئ الشرقي للبحر المتوسط بكامله، تليه سهول ساحلية متقطعة تتسع أحياناً، وتضيق في أحيان أخرى، تجري فيها عدة انهار ساحلية، تصب في البحر، تليها إلى الشرق سلسلتان من الجبال غربية وشرقية توازي الساحل وتتجه من الشمال الى الجنوب ، تليها إلى الشرق البادية السورية . ثم بلاد النهرين السهلية جنوباً والجبلية شمالاً ، يمر فيها نهرا دجلة والفرات وروافدهما، وأرض سوريا الطبيعية خصبة ومناخها معتدل، ولها أهمية إستراتيجية كبرى ، حيث أنها تتوسط ثلاث قارات هي آسيا وأوروبا وأفريقيا.
 
 
 لمحة عن تاريخ المنطقة... إطار الزمان
 يعتبر تاريخ سوريا تاريخ العالم المتمدن بصورة مصغرة. وقد عرفت سوريا منذ أقدم العصور، بنشوء جماعات أصيلة على أرضها ، وهبوط جماعات عديدة أتتها من الخارج مهاجرة حيناً ومحتلة أحياناً . أمتزجت مع السكان الأصليين على مر العصور. ويقول العالم والمؤرخ اللاتيني بلايني Pliny : "لم تغلق سوريا أبوابها تجاه الغرباء، فقد امتزجت بهم دماً وطباعاً ". 
وقد ظهرت المدن في سوريا في وقت مبكر. عندما حصل التفاعل بين الارض والإنسان، الذي تفتق عن ظهور المدنيات الأولى.
ويمكننا القول أن تاريخ سوريا قد بدأ منذ تواجد البشر فيها. ومن سكان سوريا القدماء السومريون والأكاديون والآشوريون والكلدان ، و الآموريون والآراميون والكنعانيون (الفينيقيون) وهؤلاء هم شعب واحد بأسماء متعددة. 
 
العرب في التاريخ
 ظهر العرب في التاريخ متأخرين كثيراً عن شعوب المنطقة وقد ورد أول ذكر للعرب في التاريخ في نص آشوري للملك شلمنصر الثالث، وهو يعود إلى عام ( 853 ق.م) وقد ورد فيه انتصار الآشوريين على تحالف المدن الآرامية، وجاء فيه ذكر ( جندب العربي ) ومعه ألف فارس على ألف جمل ، ومن بديع الأتفاق أن اسم أول عربي يسجله التاريخ ، جاء مقروناً بأسم الجمل، وكان ملوك الآشوريين، يشنون حملات عسكرية لمعاقبة العرب (البدو) ، لتأمين حدود امبراطوريتهم ، وردعهم عن مهاجمتها.
إن كلمة (عرب) و (عربي) حددت بصورة نهائية، للدلالة على سكان شبه جزيرة العرب، والكتب التي تحدثنا عن العرب قبل الاسلام ، لم تهتم سوى بشبه جزيرة العرب و سكانها ( انظر : تاريخ العرب قبل الاسلام للدكتور جواد علي).
 وقد جاء عن العرب في النصوص الأكاديه اسم ( أريبو ) وكلمة (عرب) كشعب لم ترد كثيراً في الشعر الجاهلي بدلالة قومية أو عرق ، وهي لم ترد في القرآن مطلقاً إلا كصفة . في حين وردت كلمة (اعراب) في معنى (البدو) في مقابل كلمة (الحضر).
 وجاء ذكر العرب في التوراة بمعنى (أهل البادية) وكلمة ( عربة ) تعني الصحراء و (عرب) بمعنى البدو، وعند اليونان جاء ذكر العرب عند المؤرخ هيرودوت ، كما جاء في نص فارسي ، تحت اسم (عرباية) بمعنى سكان القفار المستقلين. 
ویذكر جرجي زيدان وهو كاتب ومؤرخ عن العرب ما يلي : "واذا قلنا العرب اليوم ، أردنا سكان جزيرة العرب والعراق والشام ومصر والسودان والمغرب . اما قبل الإسلام فكان يراد بـ ( العرب) سكان شبه جزيرة العرب فقط ، لأن العراق والشام كانوا من السريان والكلدان والأنباط واليهود واليونان.
وأهل مصر من الأقباط، واهل المغرب من البربر أو الأمازيغ واليونان والوندال، وأهل السودان من النوبة والزنوج وغيرهم فلما ظهر الاسلام وانتشر في الأرض، وتواطنوا هذه البلاد ، وغلب لسانهم على لسان أهلها فسموا (عرباً) .. (جرجي زيدان العرب قبل الاسلام ص (41) . 
 
من هم السوريون
 قبل أن تعرف إلى أين ، يجب أن نعرف من نحن ! 
والسوريون إنما هم أمة شاعرة بوجودها ، تحافظ على إستقلالها ،وتعمل على أن لا تندمج في أمة أخرى، وكل شعب يعرف بإسمه قبل كل شيء، واهمية الأسم والهوية ما تنفك تتعاظم ، حتى تجعل من البحث عن أصله ومعناه أمراً ضرورياً.
 والشعب السوري قد نتج عن تطور تاريخي في المنطقة السورية ، لاعن هجرة شعب أتى من الخارج، ويذكر المؤرخ الفينيقي فيلون الجبيلي (القرن الأول للميلاد ) : "أن الكنعانيين سكان الساحل السوري اصيلون في أرضهم" ... وفي الداخل السوري عاش الآراميون، وفي بلاد النهرين كان السومريون والأكاديون و الآشوريون والكلدان ، الذين أقاموا دولاً وحضارات متقدمة، وسوريا الطبيعية والشعوب التي عاشت فيها تختلف تماماً عن شبه جزيرة العرب وسكانها في كل شيء .
 
الهوية السورية 
يحمل كل شعب هوية خاصة تدل عليه ، وتميزه عن الشعوب الأخرى، وموضوع (الهوية السورية) هو اليوم من أكثر الأسئلة المطروحة على الساحة السياسية إلحاحاً ، وهنا يتبادر إلى الذهن سؤال : هل سوريا سوريّة ام عربية .أو إسلامية ، ولسنا في حاجة إلى القول، أن هذا السؤال بات يشكل قلقاً كبيراً، ونتجت عنه خلافات واسعة.
وفي خضم الفوضى العارمة ، التي تتخبط فيها البلدان العربية ، يصبح مفهوم (الهوية) في مناخ غير صحّي ، وقد كان هناك- ولا زال (العنف المعرفي) لتحنيط البشر وإخضاع حضارة لحضارة أخرى مغايرة تماماً .
 و( الهوية السورية ) لها وجود تاريخ وحضاري وثقافي أصيل وبنفس الوقت طموحات وسط مشكلات كبيرة ، وإن هويتنا السورية أصيلة متجذرة، تمتد على مدى تاريخنا ، هوية أصيلة لأمة حرة، لا بد لها أن تتحقق كاملة في المستقبل، منفتحة على عالم جديد . 
وهويتنا السورية عمرها أكثر من خمسة آلاف عام . وهي مختلفة جذرياً عن الهوية العربية الطارئة. ومنذ استقلال سوريا كان اسمها (الجمهورية السورية) وليس (الجمهورية العربية السورية)...
 
 
الهوية السورية والاحتلالات الأجنبية 
 تعرضت سوريا خلال تاريخها الطويل للاحتلالات الخارجية ، فقد تعرضت لاحتلال الحثيين من الشمال والفرس من الشرق والمصريين والعرب من الجنوب واليونان والرومان من الغرب وغيرها. 
لكن أخطر الاحتلالات كان الاحتلال العربي والتركي بنسخته الاسلامية، التي شكلت غرائب ، لا تجدها في قواميس الاحتلالات الأخرى. فقد دأب العرب المحتلون على طمس تاريخها وحضارتها ، وتبديل ثقافتها وتغيير ديانتها. كما تعرض سكانها لأعمال الابادة المنظمة والنهب المنظم والتدمير الممنهج .
وفي هذا المجال يقول ( كوردل هل Cordell hull): إذا أردت أن تلغي شعباً ، تبدأ بشل ذاكرته التاريخية ، ثم تلغي لغته وثقافته ، وتجعله يتبنى ثقافة أخرى غير ثقافته ، وتُلفّق له تاريخاً غير تاريخه وتعلّمه إيّاه . عندئذٍ ينسي هذا الشعب من هو ومن كان ، وينساه العالم . " . وهذا مافعله العرب في سوريا وغيرها منذ دخولهم إليها ...
 
سوريا والعروبة 
 (العروبة ) كلمة مستحدثة، ومشروع إيديولوجي يدور خارج فلك التاريخ ، لم يلتحق بركب الحضارة الحديثة و ثقافة العصر ، فبقي قائماً على الشعارات والعنصرية.
 وكان روّاد ( العروبة) الأوائل من المفكرين المسيحيين في سوريا ولبنان ، الذين ظهروا في أواخر القرن التاسع عشر، مثل بطرس البستاني وناصيف اليازجي ونجيب عازوري وغيرهم . وكان هدفهم السياسي المشترك ، هو الخلاص من الحكم العثماني المتخلف، الذي كان يضطهد المسيحين. وذلك عن طريق إيجاد إيديولوجية تُميّز العرب عن العثمانيين.
كانت (العروبة) أول نشأتها عثمانية، ترفض بشكل عام أن يكون ( الدين ) عنصراً في الهوية السياسية . على الرغم من المعارضة من قبل (الاسلاميين)، وفي العصر الحاضر، قامت دعوة الى ( القومية الإسلامية ) و ( الوحدة الاسلامية ) ورفض القومية العربية ، مما أدى الى ظاهرة (الاسلام السياسي ) و ( التطرف الديني) وانتشارهما بسرعة كبيرة ، مما دفع بالجماعات القومية العربية للتراجع. إلى المقاعد الخلفية.
وفي المقابل ظهرت تيارات سياسية وإيديولوجيات مناهضة للعروبة والاسلام السياسي، تمثلت في ( القومية السورية) و ( القومية الفرعونية ) و ( القومية الأمازيغية) وغيرها.
ويقول المؤرخ كمال الصليبي : " هناك حرب مستمرة ، وبشكل أساسي حرب تهدف إلى تحديد ماهية التاريخ الصحيح للبلد ، وإن قضية الشعب السوري الأساسية ، هي المحافظة على (الهوية ) إذ أن هناك مخطط تاريخي، يتجاوز عمره أربعة عشر قرناً ، يمكن تلخيصه في (التعريب) و(الأسلمة) و (التذويب).
 وفي تحريف العرب للتاريخ، أضفى العرب هالة من القداسة على تاريخهم ورجاله، ويقول المفكر نعوم تشومسكي : (Noam Chomsky: "هناك هدف من تحريف التاريخ، وجعله يبدو وكأن رجاله قد فعلوا كل شيء - بعد النفخ فيه " 
وختاماً نقول : لقد اعتبر العرب تاريخ سوريا وحضاراتها السابقة ، صفحة بيضاء دونّوا عليها إرادتهم. لكن سوريا قد تضعف، ولكنها لا تموت.