معلّم الرّسم بقلم المنتجب علي سلامي

معلّم الرّسم بقلم المنتجب علي سلامي
معلّم الرّسم بقلم المنتجب علي سلامي
 
 
وضَعَ معلّمُ الرسم قفصاً لا عصفورَ فيه على طاولته الخشبيّةالعتيقة في مقدّمة الصفّ عند السبّورة الخضراء التي كتبَ عليها مستعجلاً بخطّ مشوّهٍ في وسطها بالطبشور ( حصّة رسم:القفص)، وكلّف تلاميذه في الصفّ الرابع برسم هذا القفص بدقّة، مع محافظتهم على الهدوء، والتقيّد بالمطلوب، ثمّ جلس على كرسيّه وراء الطاولة بعد أن رمى قلم الطبشور ونفض يديه من غباره الثلجيّ، و راح يتأمّل ورقةً أخرجها من جيبِ قميصه الذي ملّه الطلّاب لقدمِه ووحدانِيته، وراح يحدّقُ فيهامكفهرّاً متجهّماً، وقد دُوِّنَتْ عليها أسماءُ أغراضٍ واجبٌ شراؤها للمنزل بخطّ زوجته المتفائلة، ثمّ أعادها عابساً إلى جيبه المفتوق لتجاورَ نقوداً ورقيّة قليلة في هذا الجيب المهموم، ثمّ اتّجهَ إلى الطلّاب الأربعين بعينيه الشاردتين، وهم منهمكون في الرسم والتلوين، ويتبادلون الألوان البلاستيكيّة  والخشبيّةوالمساطر فيمابينهم، حرصاً منهم على العناية برسم القضبان المعدنيّة المتوازية للقفص طولاً وعرضاً، فكانت نظراتهم الواعية البرّاقة موزّعة بين القفص أمام معلمهم وبين دفاتر الرسم أمامهم على المقاعد الخشبيّة الهرمة، وأصوات أقلامهم وحركاتهم ولهاثهم تملأ المكان ولم تمنع أستاذهم من ممارسة هوايته في الشرود والجلوس متكئاً على جانب من الطاولة الصابرة، لكنّ طالباً في زاوية الصفّ وكأنّه يغرّد خارج السرب وحيداً كان يبدو منشغلاً منهمكاً دون أن يحرّك نظره إلى القفص نهائيا ولايستخدم المسطرة كما يفعل زملاؤه في الصفًّ، وهو ينفخ وجنته بلسانه مرّة،ً ويمدّ بطرَفه الذي عضّه بشفتيه مرّة أخرى ،ويده تتحرّك بنشاط ،وهي تلوّن شيئاً رسمه على الدفتر أمامه، وهذا ماجعل المعلّم يستيقظ من همومه البيتيّة منتفضاً، ويتركُ عرشَ كرسيّه الدافئ، ويسرعُ ببضع خطواتٍ ليداهمَ مقعدَ التلميذ  سامر الذي لايبالي بتوصيات أستاذه المُنزَلة من السماء، ليُفاجَأ هذا المعلّم بأنّ تلميذه العبقريّ المتمرّد، قد رسم عصفوراً كناريّاً أصفرَ محلّقاً في سمائه الزرقاء، ورسم جدولاً وحقلاً أخضرَ، ولم يرسم أيّ قفصٍ، فماجَ الأستاذُ وهاج،واحمرّ محيّاه، وقام بتمزيق ورقة الرسم، وصبّ جام غضبه في أذنيّ هذا المتمرّد الصغير، الذي انتصب واقفاً مرتجفاً بجسده النحيل المغطّى بلباس المدرسة(الصدريّة) الواسعة التي تسعُ طالباً آخر معه، فيداه غاصتا في كمّيها الطويلين، وراحت دموعه تطفر من عينين طفوليّتين جميلتين فوق أشلاء جثمان لوحته التي أبدع في رسمها وتلوينها .......وبعد أشهر كان هذا المعلّم في زيارة بيت الطفل بحكم وجود مصلحةٍ خاصّة مع والده، فلفت انتباهه قفصٌ فارغ من العصافير، في زاوية غرفة الجلوس المتواضعة ، فسأل سريعاً والده عنه، بعد أن عادت به الذاكرة إلى القفص الذي يشابهه في المدرسة، وتجاهلِ سامر رسمه، ومخالفته ماطُلبَ منه في تلك الحصّة الدرسيّة دون عذر، فأجاب أبو سامر بأنّ ولده امتلك كناريّاً أصفر اللون، وألحّ عليه في شراء هذا القفص ، الذي عشق الجلوس عند قضبانه، متأمّلا عصفوره الجميل الذي كان يبالغ في وضع الماء له ليشرب ،حتّى أنّ قطعة الحلوى التي كان يحصل عليها يتركها طعاماً لكناريّه المعشوق، وساعات نومه قلّت ليساهر صديقه الضيف الجميل، وكم كان يتباهى بالحديث عن أوصاف عصفوره الأسطوريّ ،في لون ريشه وصوت تغريده، ....وفي ساعةٍ سوداء تعرّض سامر لحادثٍ أليم، فقد صدمته درّاجة آلية أمام المنزل، ونُقِل مُسْعَفَاً على الفور إلى المشفى ،بعد أن أغمي عليه، وبعد ثلاثة أيّام من انشغال كامل الأسرة بصحّته ،وبعد أن استقرّ وضعه و زال الخطر عنه، عاد إلى البيت، ليفاجأ بجثّة عصفوره وراء قضبان القفص الذي خلا من ماء وطعام فقدنُسِيَ هذا الكناريّ الأصفر مسجوناً ،ليموت عطشاً وجوعاً....في القفص الظالم.