أ.د أحمد فرحات يكتب : حنين النهر إلى الماء .. معادلة الشكل الجديد القديم

أ.د أحمد فرحات يكتب : حنين النهر إلى الماء .. معادلة الشكل الجديد القديم
أ.د أحمد فرحات يكتب :  حنين النهر إلى الماء .. معادلة الشكل الجديد القديم
 
لم يكن سيد حسني شاعرا يمر في ذاكرة الشعر المصري مرور العابرين، دون أن يخالجك نبضه، وتنتفض فرائصك لشعره.
 يقدم نموذجا جديدا من الشعر العمودي، ينسج منه عالما من الخيال والسحر، يشدك بقوة إلى نصوصه، عبر إشارة أو لمحة عابرة، تزيد من ارتباطك بالنص، ولا تكاد تتركه حتى يحث فيك أثرا لذكرى جملة أو حنين لفكرة. يشغلك اهتمامه بالقصيدة العمودية حد الدهشة والإعجاب، لا يستكين إلى هاجس راكد، بل يذهب بك بعيدا حيث الفكرة تتبلور في ضميرك، وتستقر. 
وحتى تستقر الأفكار الجانحة في شعر سيد حسني يذهلك تمسكه ببناء محكم لنص متين، يأخذك استمساكه بالمتن الموسيقي التقليدي، وزنا وقافية، ويطيح بأحلامك فكرا ومضمونا. 
منذ العتبة النصية الأولى" حنين النهر إلى الماء" يشغلك ما في العنوان من تناقض جلي بين حنين النهر والماء، فإذا ذكر النهر وجب استذكار الماء، فكلاهما مرتبط بسر أسرار الحياة. إذ كيف يحن النهر إلى الماء؟ كيف تعانق الحياة شوق الموت؟ كيف نهتم بالمبادئ والقيم رغم غيابها؟ كيف نكون ولا نكون في آن معا؟ كيف للشيء يكون ولا يكون؟ أسئلة حائرة في عالمه الشعري، يستقطب قارئه بقوة ليلج مدارات فضاء مملكة هو أميرها الأبرز والأوضح. 
يمتلك سيد حسني مهارة إحكام البناء النصي للشعر العمودي، وأظن  أنه اطلع على الأفكار المضادة للشعر، وحاول تلافيها وهو يبني نصه بناء محكما متينا. فعبثا لا تجد كلمة شاردة عن سياقها، وعبثا تجد فكرة غير مكتملة الأركان والبناء، وعبثا تجد نهرا بلا ماء. 
شغلت فكرة ترهل القصيدة العمودية وعجزها عن التعبير عن متطلبات العصر، مما حدا بشعراء الجيل السابق إلى اقتفاء آثار غربية لا تمت بصلة إلى جذور القصيدة العربية العمودية، فراح الشعراء يتحررون من القافية الموحدة إلى الترسل، ومن النسق الوزني الثابت إلى حرية التعدد في الأوزان، وعدد تفاعيلها. فجنح معظم شعراء الجيل السابق إلى التحرر من صلابة الوزن والقافية، فكتب الزهاوي شعرا مرسلا ليس فيه من الشكل العمودي إلاالوزن: 
لموت الفى خير من معيشته  يكون لها عبئا ثقيلا على الناس
وأنكد من قد صاحب الناس عالمٌ   يرى جاهلا في العز وهو حقير
أعاد سيد حسني للقصيدة العمودية شموخها، وانتصاب قامتها في عزها ومجدها، محافظا على المتن العروضي الواحد ، والقافية الواحدة، معتمدا على تماسك البناء وحبكه. مقدما لهيبه المقدس للقارئ. 
انتهج الشاعر نهجا جادا، ببناء القصيدة العمودية، حافظ من خلاله على تآزر عناصرها المؤسسة  لتكوين شخصية القصيدة التقليدية وإعادة بنائها، وبث الروح العصرية فيها من جديد. تأمل كمية المتناقضات التي نراها في الحياة، وكيف عبر عنها الشاعر باعتماد الشكل التقليدي القديم، دون أن تشعر معه بعجز أو ترهل  أو كلمة مجتلبة لأداء دور وظيفي زائد عن المطلوب أو مخل في البناء، وكأن الشاعر تأمل الكون وخبر ما فيه من تناقض ففاضت شاعريته معبرة بصدق عن عالم مخاتل.  
ورب روح إذا أحببتها وُلدت   وما صارت سوى بالحب إنسانا 
ورب حضن إذا جئناه ينكرنا   وألف حضن يمد إليك أكوانا 
ورب نهر يهيل الماء فياضا     وفيه تعيش هذا الماء ظمآنا 
أنا لا أغريك عزيزي القارئ بقراءة هذا العمل الجاد، بل أدعوك بصدق إلى تأمله، وتفحص مفرداته، لتصل إلى نتيجة مطمئنة أن الشعر العمودي باق ببقاء (سيد حسني) وأترابه. 
 
* بقلم الأستاذ الدكتور أحمد فرحات - ناقد أكاديمي