عقَّ يومُه أمسه بقلم د. علي زين العابدين الحسيني

عقَّ يومُه أمسه بقلم د. علي زين العابدين الحسيني
عقَّ يومُه أمسه بقلم د. علي زين العابدين الحسيني


دوّن التاريخ سيرة عظماء سعوا في بناء الحضارة، وتعزيز القيم المجتمعية، ورفع شأن الإنسانية، لا شك أن المعرفة الحقيقية بهم والوقوف على أخبارهم مما يساعدنا على الاستنارة بأفكارهم، والأخذ بأسباب ما يُعرف بــــــ"صناعة التاريخ"؛ لأنه إذا توقفت حركة القراءة في تاريخ العظماء ستبقى هناك فجوة هائلة بيننا وبينهم.
ومهما أخذنا بآليات التقدم ستكون هناك مفاتيح للنجاح جاهلين بها أو مبتعدين عنها، على أن هذا التاريخ بدوره لم يدون سيرة كل العظماء، وطرقهم الناجحة، وأساليبهم في الحياة، ونظرتهم للإنسانية، ويرجع ذلك -في نظري- إلى أنهم أكبر من صفحات هذا التاريخ، والعادة قضت أن هناك كثيرين قدموا للإنسانية أشياء مهمة، لكنهم صاروا في طي النسيان، سواء كان عن عمد أو غير عمد.
إنّ التعرف على أخبار الماضي يعطي للنابهين في أضعف الحالات مقياساً مهماً للمقارنة بين المستجدات وبين ما سبقها من أحداث!
حقاً لقد ضلّ الطريق أولئك الذين حاولوا أن يكتفوا بحاضرهم دون الالتفات إلى أعمال السابقين وجهودهم، وما أشد حمق الإنسان إذ يعتقد أنه يستطيع العيش بنفسه، أو أن معرفته للأمور أقوى من معارف غيره، وقد أساء هؤلاء إلى حاضرنا إساءة بالغة بإصرارهم على عدم دراسة الشخصيات السابقة دراسة مستفيضة تعود علينا جميعاً بالنفع العام.
ويفيد الاطلاع على تاريخ الأمم ومعرفة مجريات الأحداث الماضية الأجيال الناشئة على الأقلّ في كيفية التعامل مع الأحداث الراهنة، فعادة ما تتكرر الأحداث، والنبهاءُ منّا هم مَن يستفيدون بكلّ ما مضى من أخبارٍ وأحداث، وقد يبدو من الغرور أن يرفض المرء السير على هدى رجال سبقوه يفوقونه بكثير من الحكمة والخبرة.
ليس في مقدورك أيضاً أن تعرف شخوصك معرفة تامة كافية تغنيك في حياتك، لكن قراءة السير والتراجم تعطيك غالباً أدوات كاشفة مما لا تستطيع أن تفهمه من النماذج الحية.
لعلّ من أهم فوائد قراءة التاريخ ودراسته دراسة متأنية اتساع عقلية المؤرخ، فيربط الأحداث بعضها ببعض، ويقف على حلولٍ سريعة للمشاكل الراهنة، ويستجلب العوامل التي ساعدت على نهضة الأمم، ويستبصر أسباب انهيار بعضه، ويمتلك قدرة فائقة في توظيف الأحداث السابقة بما يخدم حاضره، فكثيراً ما نقرأ عن تشابه الأحداث وتطابق الأعمال، والواقع يشهد أن قُراء التاريخ ينفردون بمميزات كثيرة، أبرزها أنهم لا يفتقرون أبداً في موضوع ما؛ لأنهم يجدون في مقروءاتهم ما يماثل هذا الموضوع أو يقترب منه، فتتيح لهم القراءة أكثر ما يتيح لهم الوقت في التفكير في الموضوع ودراسته.
كذلك يُكوِن التاريخُ العقليةَ الكاشفة التي تبني العقل الإنسانيّ، فالتاريخ وإن كان شيئاً ماضياً إلا أنّه في نفس الوقت حاضرٌ يستفادُ منه، فهو بوابةُ معرفة المستقبل، وإعمال خبرات المتقدمين، وتفعيل تجارب المجتمعات السابقة، وإحياء ذكرى الماضين، وميدان صالح لتبادل الخبرات، ولا أعني بالقراءة الواعية للتاريخ استنساخ الأحداث نفسها، ولكن يختار النبيه من التاريخ وأحداثه ما يلائم أغراضه وحياته المعاصرة.
ولا تزال أذهان الواعين تنظر إلى المستقبل بنوع من العزيمة إلى إكمال السير خلف خطى العظماء، فالعظيم يكمل ما توقف عنده العظماء، وهكذا يستلهم الصغير العزة والإبداع عن الكبار، وجميل أن يكون لدى المرأة قدوات صالحة ونماذج نيرة في حياته.
إذا تقرر ذلك فحينئذٍ لا يخامرني أيّ وهم حول ضرورة القراءة المتأنية لثقافات الشعوب المتعددة، فإنمّا يتصل سير طريقنا بالإلمام الشامل لتاريخ حضارات الأمم المختلفة، فنقوى على السير في الطريق بذكرى تاريخ العظماء الذين خلدوا ذكراهم بمواقفهم الإنسانية، وأعمالهم التي استفادت منها أمتهم، وغيرها من الأمم، وقيمة المعرفة تكمن في تأثيرها على الشخصية.
سرني أن أعلم أن كثيراً من كبراء عصرنا حريصون أشد الحرص على قراءة ما وصل إليهم من كتب التاريخ والسير الذاتية، التي بدورها قد أمدتهم بكثير من الأفكار التي أفادتهم في حياتهم العملية، وإذا كان لأحد أن يجمع مزايا كل سيرة ذاتية وأبرز ما فيها من طرق ناجحة وفقاً لطريقة الكتابة في عصرنا فسوف يكتب لكتابته قبولاً عند كثير من المهتمين.
ولنكن على يقين أنّه إنما تُوصل حضارة الماضي وتاريخه المشرف بعمل وعظمة الحاضر، وطموح وآمال المستقبل، فمن خالف حاضرُه ماضيه، وعقّ يومُه أمسَه فقد قطع عنه سبيل النهوض وطريق العلو!
ليس في وسعك أن تتجاهل الآخرين لتمسح آثارهم!