د.محمد فتحي عبد العال يكتب : صفحات من التاريخ الأخلاقي بمصر من هنا نبدأ

د.محمد فتحي عبد العال يكتب : صفحات من التاريخ الأخلاقي بمصر من هنا نبدأ
د.محمد فتحي عبد العال يكتب  : صفحات من التاريخ الأخلاقي بمصر من هنا نبدأ
"بدون إثارة للعواطف ومشاعر الخوف والشفقة أنا بفكر في الانتحار "
مشاعر من اليأس والإحباط والقنوط سيطرت على الطبيب الشاب دكتور محمود سامي والذي فقد بصره أثناء عمله بمستشفيات عزل كفر الشيخ إبان فترة جائحة كوفيد 19 ويصور الطبيب الحالة النفسية التي تعتصره بقوله "ليلي يشبه نهاري بستنى الليل ليه مش عارف ؟!واستنى النهار يطلع ليه مش عارف ؟! تايه في بحر كبير من الأوهام "
نموذج نادر من التضحية قدمه الطبيب لوطنه دون جزاء يوازي ما قدمه وهو أغلى ما يملكه إنها نعمة الإبصار أعظم منح الخالق العظيم .
حالة الطبيب لخصت حال الأطقم الطبية المصرية الغارقة في أتون الإهمال وعدم الإكتراث لجهودهم من تدني الرواتب ونقص التدريب وفقر الإمكانيات والعمل في ظروف نفسية وجسدية صعبة ولساعات طويلة  وغياب الدعم النفسي  وهي من أسباب تدني مستوى الخدمات الصحية في مصر..
بلا شك تراجع الوضع الصحي في مصر متراكم منذ فترة طويلة فلو تأملنا قصة إنشاء وزارة الصحة في مصر فهي قصة طريفة ومضحكة وتدعو للرثاء في الوقت ذاته ..الملك فؤاد على فراش المرض يعاني من اعتلال الكلية وكانت حالته متأخرة للغاية خاصة وأن الملك فؤاد كان يعاني من تقيح اللثة مما أدى إلى خلع أسنانه الواحدة تلو الأخرى وبطبيعة الحال اجتماع مرض الكلى المزمن مع أمراض اللثة عادة ما يزيد من معدلات  الوفاة لمصابيها بالطبع لم تسلم الملكة نازلي زوجة الملك من تقيح اللثة فالواضح أن الملك الراحل كان من عشاق التقبيل وأكثر حتى لحظاته الأخيرة بحسب رواية دكتور ستانكيفتش الروسي الأصل للكاتب محمد التابعي !!.
كان الملك في لحظة ميلاد الوزارة قد أفاق من غيبوبة وإلى جانبه محمد شاهين باشا طبيبه الخاص فشكره على العناية به قائلا :اشكرك يا وزير! ولأن الصحة كانت لا تتعدى كونها لجنة تابعة لوزارة الداخلية وليس لها وزارة وأضغاث أحلام الملوك أوامر ولو كانوا في سكرات موتهم!! فاستحدث علي باشا ماهر رئيس الوزراء في ذلك الوقت وزارة للصحة في عجالة ولملم شتاتها من مصالح وهيئات شتى حتى يصبح طبيب الملك وزيرا لها.
اللافت أن الأمراض التي استوطنت في مصر لم تكن مدعاة لهذا الأجراء وهو المؤسف في الموضوع ففي كتاب (مبادىء في السياسية المصرية) والصادر عام 1942 لمحمد علي باشا علوبة يرصد أحوال الصحة في مصر في فترة الثلاثينات  وتصدر البلهارسيا لتكون في مقدمة الأمراض المستشرية  بالقطر المصري بنسبة 80% فضلا عن أمراض العيون  كالرمد الحبيبي والصديدي بنسبة 92% وما ينتج عنها من عمى بنسبة 81% جراء نقص النظافة المجتمعية !!. لكن الأدهى في كل ذلك أن   نسبة الوفيات في مصر عام 1938 كانت الأعلى عالميا بنسبة 26.4 في الألف وهو ما يعني أن الوزارة الوليدة لم تغير شيئا من ملامح الوضع الصحي في مصر وهي مسألة سنناقش أسبابها باستفاضة بنهاية المقال. 
السؤال الذي نحن بصدده هل تقدير الأطقم الطبية اختلف ما بين الأمس  واليوم ؟!  سنستدعي للإجابة من الماضي  الدكتور (محمد شكري باشا) بالطبع عزيزي القارىء لم تسمع عنه في حياتك ولو استخدمت محرك البحث جوجل فربما عثرت على نتيجة واحدة أو اثنتين عنه. لكن بالرجوع لخبر وفاته بالطائف المصورة في 22 يناير عام 1917 نجد نبذة كافية عنه فهو من أساتذة الطب في مدرسة القصر العيني وهو ابن الدكتور احمد بك عبد النبي حكيمباشي البيمارستان المصري وقد تخصص في الولادة وامراض النساء وعينه الخديو اسماعيل طبيبا خاصا لوالدته ومنحه الوسام المجيدي الرابع وبعد إحالته على المعاش منح رتبة الميرميران الرفيعة(من أرفع الرتب العثمانية وتعني أمير الأمراء ) ولقب أستاذ في علم الولادة.
ما لم تذكره اللطائف أن الطبيب كان نقطة البداية  للتحول من الداية والماء الساخن في عملية الولادة إلى إطلاق يد  الطب الحديث في هذه العملية وقد أشرف الدكتور محمد شكري على ولادة الأمير أحمد فؤاد نجل الخديو إسماعيل وقد قامت بتوليده (جليلة صالح تمرهان أفندي) المدرسة بمدرسة القوابل ولها كتاب (محكم الدلالة في أعمال القبالة) 1869وقد تتلمذ على يدي الدكتور شكري الدكتور نجيب محفوظ باشا أحد أعلام أمراض النساء والولادة ويقال أن أديب العالمية نجيب محفوظ ولد على يديه ولهذا تسمى باسمه!  .
حقا إن ما يميز هذه الأزمنة هو التطوير والتحديث وهو ما اندهش لتلاشيه اليوم فلقد جمعني القدر بصيدلي في موقع اداري هام كان دائم الشجار مع المرضى لا يمر يوم دون شتائم متبادلة بينه وبينهم و كان  يأتي يوميا وفي يديه قرطاسين أحدهما لمعلقتين بالعدد  من الشاي والثاني لمعلقتين من السكر وكان يزنهما  بمقياس الذهب وكانت هذه أقصى طموحاته وهذا من عجائب ما صادفته من بشر في حياتي العملية بينما حينما بحثت بين عناوين الكتب القديمة التي تجمعت لدى من مؤلفات النخب الطبية قديما هالني ما وجدت من إسهامات ثقافية جليلة المتصل منها بالمهنة وغير المتصل والأمثلة على ذلك :
1-كتاب (القول المبين في مختصر المادة الطبية والاقربازين) تأليف (عبد العزيز أفندي كامل) صيدلي بالقصر العيني 1896.
2-كتاب (مظلوم في المادة الطبية والاقربازين) تأليف (فيتاليس مظلوم الأجزاجي )1912.
3-كتاب (تاريخ الطب والصيدلة والكيمياء عند قدماء المصريين) تأليف (عبد العزيز أفندي عبد الرحمن) صيدلي أول مستشفى الدمرداش باشا 1939بتقديم حضرة المحترم الدكتور ابراهيم رجب فهمي بك أستاذ علم العقاقير بكلية الطب المصرية وحضرة الأستاذ محمود حمزة بك أمين شرف بالمتحف المصري ومفتش عام مصلحة الآثار المصرية.
4-المعجم الطبي الأول الذي لم ير النور كاملا والذي حمل اسم  "الشذور الذهبية في المصطلحات الطبية  وقد وضعه العالم اللغوي (محمد عمر التونسي)  بمعاونة ومراجعة مجموعة من الأطباء.
نعود لقصتنا المحورية مرة أخرى عن الدكتور أحمد شكري ووفاته وهل لاقى جزاء إحسانه ؟!!طبعا ما دمت في مصر فستلاقي جزاء الإحسان أضعافا مضاعفة !!
في 5 فبراير 1917 وعلى صفحات اللطائف المصورة أيضا نشر الاستاذ (فؤاد أبو السعود ) مقالا تحت عنوان  (الرجال هنا وهناك) تعليقا على عدم تكريم الدكتور شكري وتجاهل جهوده   فينبه إلى ضرورة الاعتراف بفضل "الرجال العاملين الذين خدموا الأمة بعلمهم وعملهم ومشاريعم "ونيل ما يستحقونه من "آيات الثناء والحمد "وتخليد ذكراهم ويرى في ذلك برهنة للأمم الأخرى "أننا أمة حية تذكر المعروف ولا تجحد فضل العاملين من أبنائها".
ويقارن بوضع المسؤولين بالأمم الغربية وضرورة أن نأخذ عنهم إقرارهم بفضل العاملين من أبنائهم "كبيرا كان أو صغيرا "
فيرى تقاعس من الحكومة ووزارة المعارف على الأخص في توديع الدكتور شكري وكذلك من تلامذته وهو ما يعتبره "الخطأ العظيم" و"علة العلل" ويحذر من تأثيره المستقبلي على العاملين بالدولة "لما يراه الخلف من جزاء السلف " ثم يصف لنا روشتته للعلاج  فبلوغ الكمال يقتضى الأخذ بيد العاملين الأحياء وتشجيعهم وتخليد ذكرى "الخادمين بعد مماتهم" لأن في ذلك "أحياء لنا".
لله درك يا استاذ فؤاد لقد وصفت لي خبرا كأني أشهده فالعلة باقية ومن الدروس التي تعلمتها من خروج والدي على المعاش أن لا أجعل العمل الحكومي هدفا في حد ذاته فهو يسلب العمر دون عرفان أو شكر وأن اجعله وسيلة لا غاية لبلوغ أهداف أكبر في طريق طموحاتي وغاياتي .
الجميل في هذا المقال كانت كلمات التمهيد لكاتبه فالمعارضة ليست إثما بل مشاركة وإصلاح فنجد الاستاذ فؤاد مبتهجا بإطلاق "الأمم المتحضرة الحرية لكل ناقد من أبنائها "وخضوع "كبيرها وصغيرها لسلطان الحقيقة" واحترام الآراء المختلفة وكان نتاج ذلك أن "أصبح في استطاعة كل فرد تحبيذ ما يراه حقا واستهجان أي عمل يرى فيه ما يمس كرامة أمته أو يسجل عليها الأهمال والضعف".
بالطبع عزيزي القارىء ستقول وهل يصلح مثال واحد لنبني عليه قضية نكران الجميل لذا سأعطيك مثالا آخر من الماضي وما أكثر الأمثلة :محمد علي باشا البقلي الجراح المصري وأول مدير مصري لمدرسة طب القصر العيني وصاحب مجلة (اليعسوب) أول مجلة طبية في مصر وقد شاءت الأقدار وهو في سن كبير أن يرافق حملة الخديو إسماعيل على الحبشة بقيادة السردار راتب باشا ومع الهزيمة المنكرة للحملة المصرية سقط البقلي باشا مع من سقطوا أسرى في يد الأحباش واقتيدوا إلى المعسكرات وكان في نفس القيد مع جندي سوداني صغير السن فأمر أحد الجنود الأحباش الجندي السوداني بقتل البقلي باشا لبطئه الشديد بحكم السن والتخلص منه فما كان من الجندي السوداني إلا أن امتثل للأمر تحت وطأة التعذيب وبقيت جثة الرجل العجوز المسكين في العراء فماذا بقي من سيرته الآن غير أحد شوارع القاهرة ؟!
رغم كل هذا فالطب قديما كان بخير ياله من زمان جميل وبالطبع نعدم  فيه ما نسميه الآن الأخطاء الطبية أليس هذا ما يدور بخلدك  عزيزي القارىء؟! رويدا رويدا لا تكن متفائلا كثيرا يا عزيزي ولا تصدق أن مصر الدولة الوحيدة التي لو عادت لماضيها ستتقدم فلا يوجد زمان يخلو من الأخطاء ففي وثيقة نادرة متداولة على الصفحات التاريخية التراثية  تعود لعام 1875 بمدينة بورسعيد تحمل شكوى بإمضاء "علي عبد محب للوطن مراعي واجبات الإنسانية "ضد المدعو (علي حسن) شيخ حارة قسم أول بورسعيد وحكيم صحة البلد المسمى (حضرة ماچي) لاستخراجهما تصريح بدفن ولد يسمى  (محمد بن علي الصعيدي)  دون توقيع الكشف الطبي عليه قبل الإذن بالدفن والمختوم بختم السانيتاه (الصحة) حيث فوجىء  الحضور أثناء تغسيله بأنه لازال حي يرزق..خطأ طبي نشاهده حتى اليوم.. وقد يدخل المريض بعلة ويتماثل للشفاء منها ثم يموت بأخرى كالقصة التي يسوقها لنا الطبيب الإنجليزي (آرثر سيسيل ألبورت ) في كتابه (ساعة عدل واحدة .الكتاب  الأسود عن أحوال المستشفيات المصرية) والذي استلهم عنوانه من حديث نبوي ومن الكتاب الأسود لمكرم باشا عبيد ضد مصطفى النحاس باشا من أن طفلة دخلت المستشفى تعاني إلتهابا كلويا وبعد تعافيها وبينما تجول بين الأقسام حافية القدمين أصيبت بالتهاب رئوي وماتت بسببه والحقيقة أن التجول بين أقسام المستشفى والممرات والتطلع من الشرفات من شيم المريض المصري قديما كما سجلها ألبورت وحديثا أيضا فقد شاهدت مريضا منوما بالقسم الرجالي في أحد المستشفيات يخرج لشراء علبة سجائر ثم يعود للمستشفى مرة أخرى !!!
إن ما نعانيه اليوم وللأسف الشديد هو وليد الأمس ومحصلة تراكماته والأمر ليس بمستغرب  فقد بقيت التركيبة غير المتجانسة للوزارة على حالها  علاوة على غياب التوصيف الوظيفي للأطقم الطبية وحدود الممارسة الإكلينيكية لكل تخصص والتداخلات في المهام على عشوائيتها دون تحديد حتى وصلنا اليوم  لمعارك بين الأطباء وأخصائي العلاج الطبيعي وخريجي التربية الرياضية وبين الأطباء والصيادلة على لقب عرفي كالدكتور والمسموح والممنوع في صرف الدواء وقضايا أخرى كثيرة غيبت سلامة المريض وحقوقه عن أجندة القطاع الصحي في مصر وكان يمكن الحيلولة  دون ذلك بتشريعات منضبطة تعالج هذه التداخلات وتحدد المهام والمسؤوليات للقطاعات الطبية  بوضوح تام.
الحقيقة  أني أجد أن أحد أهم علل الوزارة الإصرار على تقلد قيادتها لطبيب فالمنظومة الصحية تقوم على أطباء وتمريض وصيادلة وفنيين مما يقتضي فرص متساوية في التدريب والترقيات وهو ما لا يمكن تحقيقه ورأس النظام الصحي في قبضة فصيل واحد لذلك فالفرص المتساوية في تقلد منصب وزير الصحة من داخل الأطقم الطبية وخارجها يضمن حيزا كبيرا من التوازن والمساواة داخل المنظومة .
إننا نحتاج إلى مزيد من العناية بتنظيم البيت الطبي المصري وتوزيع الاختصاصات بدقة وإلغاء النقابات الحالية واستبدالها بمراكز للتعليم المستمر والتدريب والتوسع في الزمالات المهنية والتدريب وكما تقام التماثيل لكبار القادة العسكريين والسياسيين والإقتصاديين فلتقام تماثيل مماثلة للأطقم الطبية التي لا تقل في تضحياتها عن هؤلاء في ميادينهم والجائحة أكبر مثال على عظم هذه التضحيات .
 
 
* الكاتب :
د.محمد فتحي عبد العال
كاتب وباحث وروائي مصري