أ.د صبري أبو حسين يكتب : مقاربة أيكولوجية في خريدة (الرجل البدائي) الجيمية للشاعر عبدالحميد بدران (2)

أ.د صبري أبو حسين يكتب : مقاربة أيكولوجية في خريدة (الرجل البدائي) الجيمية للشاعر عبدالحميد بدران (2)
أ.د صبري أبو حسين يكتب : مقاربة أيكولوجية في خريدة (الرجل البدائي) الجيمية للشاعر عبدالحميد بدران (2)
 
 
وينتقل بنا شاعرنا في جيميته نقلات ثلاث، وكل نقلة تبدأ بالضمير المهيمن(أنا)! وتمثل الثلاثية البانية: البيئة، النشأة، الثقافة، والبيئة واسطة عقدها، فالنشأة والثقافة كانتا في البيئة ومنها، يقول في النقلة الشعرية الأولى:       
أنامُ على سريرِ الريف  كهْلا     تُهدهدهُ وتحضِنه الدّياجي 
وأسرحُ في حقول النيل طفلا      يرفرفُ أو يلقّط كالدجاجِ 
أمرّغ جبهتي في حِجر أمي      وأغزلُ من خُيوط الحقل تاجي 
وأعزفُ من سِلال العشق لحنا     أنقّرهُ على شفةِ الزجاج 
وأغرفُ من جبين أبي وأمي     فصولا لا تملُّ من احتياجي 
إنها البيئة الأولى، وإنها الأماكن المصرية الخاصة جدًّا والمؤثرة جدًّا، حيث (الريف)، و(حقول النيل)، و(حجر الأم)، و(خيوط الحقل)ـ أربع بيئات تتدرج وتتنوع وتتواصل، لتخرج عبدالحميد بدران، وملايين أمثال عبدالحميد بدران، كأنني بشاعرنا يقول في هذا المقطع الشعري: (يحيا الريف المصري)، و(تحيا بيئة مصر)، والحل والخلاص في (العودة إلى بيئة مصر الأولى) تلك الولادة المعلمة المربية المنتجة المعمرة! ومن ثم يهيمن الفعل المضارع الذاتي:(أنام/ أسرح/أمرغ/ أعرف/أغزل/ أنقر) ليعلن عن حيوية هذه البيئات واستمرار فعلها الأخضر الإيجابي فيه، ومن ثم كان حرصه الشديد والشفيف عليها! 
وتمتزج هذه البيئة بالإنسان الأصل، أو لنقل(البيئة البشرية الأولى(الأم والأب)، هذان اللذان لهما فصول لا يمل من الاحتياج إليهما شاعرنا!
وتأتي النقلة الثانية عن البيئة الثانية الأكثر خصوصية، والمطورة لأخلاقيات الشاعر وسلوكياته، حيث يقول:
أنا رجل بدائي وأمي          ببطن الريف قد ألقتْ رتاجي
أقام القمحُ بين دمي وجلدي     ولوّن مشرقُ الشمس ابتهاجي
فطوري بسمةٌ بفم بريء        وثغر لا يحضّ على اعوجاجِ
ودمعي من ضلوع شاهقات       أبثُّ شجونها مُرّ انزعاجي
عرفت شريعتي في لين جدّي     وصوتِ مؤذن ورجاءِ راجي
فصُمتُ ولم يزل بالصمت رطبا    لسانُ أبي إذا كثر احتجاجي
ونمتُ وليس في شفتي اشتهاء     للذة مزحة أو لانفراج
يبدأ الشاعر بالبيئة الكلية المؤسسة(بطن الريف) ثم يفصل عناصرها: القمح/مشرق الشمس/البشر البريء براءة الفطرة: بسمة، وثغرًا، ودمعا، ولينًا، وصوت مؤذن، وصومًا، وصمتًا! وما أدل توظيف القمح هنا! وما أشعر أثر الشمس هنا! وما ألذ تمازج البيئة بالإنسان بالمشاعر في بوتقة موحية قائلة! إنها بيئة الطهارة حيث (فم بريء)، و(ثغر لا يحضّ على اعوجاجِ)، و(لين جدّ)، و(وصوتِ مؤذن ورجاءِ راجي)، و(لم يزل بالصمت رطبا لسانُ أب) عند مواجهة( شجون) ة(مُرّ انزعاج) و(احتجاج)، إنها البيئة الريفية الدلتاوية الفلاحية السحرية الآمنة المُؤَمِّنة التي لا قلق فيها، ولا قلق معها ولا قلق منها! والتي ينتهي فيها صراع الأجيال(الجد/الأب/الحفيد) بهدوء وصمت وأدب ووقار فلا اشتهاء لمزحة أو انفراج منفلت!! 
وتأتي النقلة الثالثة: البيئة الثقافية الممتزجة بسحر الطبيعة النهارية والليلية، حيث يقول شاعرنا:
أنا رجل بدائي شفيف         تذوّبه من اللغة الأحاجي
يُدير مع النجوم حديث عشق     له في كل ناصية سواجي
وتحفره على شجر المآقي      ملامح لا تملّ من انبلاج
ويُنشده بأنفاس العصاري   هوى مَنْ باسمها عَشِق التناجي
ويجرح سمعُهُ ما قد تلاشى    من الإصرار في غرف المساج
فاللغة عنصر ثقافي، وليست اللغة العادية أو التقليدية أو السطحية بل اللغة العليا، لغة النخبة(الأحاجي)، و(النجوم) عنصر بارز في البيئة السماوية الليلية، و(شجر المآقي) بيئة أرضية مُلَطِّفة، و(أنفاس العصاري) لا تجدها إلا في بيئة خضراء نقية شافية واقية، ولفظة (العصاري)من معجم البيئة المصرية الحياتية الخاصة جدًّا، حيث(شاي العصاري)، و(قعدة العصاري)، و(عمل العصاري)!
وبعد عرض الشاعر لهذه البيئة الريفية الفطرية النقية البيضاء الخضراء، نجده يُعَرِّض بيئة أخرى وافدة مُشتَراة مستورة مفضوحة: (غرف المساج)، بيئة المستلبين أو المأجورين أو الفاحشين الممكيجين، الذين لا براءة عندهم ولا صدق عندهمـ ولا طهر عندهم، ينغمسون في الشهوات ويشيعونها ويزينونها، ويبغونها عوجًا!
ثم يأتي الشاعر ببيت الختام مقررًا ما صور في المطلع والنقلات الثلاث، قائلاً:  
أنا رجل بدائي مريض     وشُرفةُ مَنْ سبتْ قلبي علاجي
مضيفًا بعدًا رومانسيًّا إلى النص، حيث البيئة العاطفية(شرفة من سبت)، وهي من بيئة عالية خاصة، فيها علاجه، من أمراض ذوي المساج، الذين أراهم القارئ الضمني لهذا النص، وأراهم المخاطب المقصود منه، فليتهم يعلمون، فيرجعون عن المَكْسجة والمَنْتجة والمَكْيجة، التي هي كذب وزور وبهتان ولغو ولهو وباطل!