التحول فى المفاهيم الدولية.. كيف أصبحت المفاهيم "سيئة السمعة" بمثابة فرض عين على دعاة الديمقراطية؟.. والمستجدات الدولية تجبر الغرب على إعلان "الطوارئ".. والتعددية الدولية ساهمت فى تحقيق التوازن بعد سنوات الفوضى

التحول فى المفاهيم الدولية.. كيف أصبحت المفاهيم "سيئة السمعة" بمثابة فرض عين على دعاة الديمقراطية؟.. والمستجدات الدولية تجبر الغرب على إعلان "الطوارئ".. والتعددية الدولية ساهمت فى تحقيق التوازن بعد سنوات الفوضى
التحول فى المفاهيم الدولية.. كيف أصبحت المفاهيم "سيئة السمعة" بمثابة فرض عين على دعاة الديمقراطية؟.. والمستجدات الدولية تجبر الغرب على إعلان "الطوارئ".. والتعددية الدولية ساهمت فى تحقيق التوازن بعد سنوات الفوضى

ربما تبقى العملية العسكرية الروسية فى أوكرانيا، رغم أهميتها كنقطة تحول كبيرة فى موازين القوى الدولية، مجرد مشهد فى مسلسل من المتغيرات الدولية، إذا ما وضعنا فى الاعتبار العديد من الحقائق، وأبرزها أن التحرك الروسى يمثل تقويضا لـ"أسطورة" المعسكر الغربى، وهيمنته المطلقة على المشهد الدولى، حيث يمثل فى جوهره، تحديا كبيرا وغير مسبوق للولايات المتحدة وحلفائها، وذلك فى إطار عودة ملموسة لموسكو إلى مكانتها الطبيعية، فى مصاف القوى العظمى الحاكمة فى النظام العالمى من جانب، بالإضافة إلى الصعود الكبير للصين، كقوى اقتصادية، من جانب أخر، بينما يبقى التحالف بين موسكو وبكين جانبا ثالثا للمعادلة الدولية، سوف يسفر عن منافسة، أو بالأحرى صراع متكافئ بين المعسكرين القديم بقيادة واشنطن والجديد بقيادة الدب الروسى، والتنين الصينى.

 

المشهد الدولى الجديد، والذى عززته العملية العسكرية الروسية الراهنة، يمثل فى جوهره حقيقة تقوم على فكرة أن العالم بات "متعدد الأقطاب"، حيث لا يمكن أن تحكمه قوى واحدة بعينها، يمكنها أن تفرض رؤيتها وقواعدها، وإنما أصبح أكثر توازنا، ليس فقط من حيث القيادة الدولية، وإنما أيضا من حيث الرؤى والأيديولوجيات الحاكمة، وهو ما ينعكس على العديد من المفاهيم الدولية، التى باتت تشهد هى الأخرى تغييرا عميقا فى انعكاساتها والنظرة الدولية إليها، خاصة مع اختلاف الظروف، سواء جمعيا فى إطار المجتمع الدولى بصورته الكلية، أو فرديا فى إطار المستجدات التى تطرأ على أقاليم أو دول بعينها، بعيدا عن سياسة "التنظير" التى طالما مارستها القوى الدولية الحاكمة طيلة العقود الثلاثة الأخيرة.

 

تغيير البنية الدولية.. المصطلحات "سيئة السمعة" باتت "فرض عين"

ولعل المفاهيم الدولية قد شهدت بالفعل تغييرات عميقة، فى الآونة الأخيرة، فى ظل مستجدات وأحداث، صنعت تحولا ملموسا فى بنية النظام العالمى، لتتحول تلك المصطلحات، التى طالما حاربتها القوى الدولية الحاكمة، باعتبارها مناوئة لمبادئها، إلى قواعد ربما تسطر شكل العالم الجديد، فى ضوء التغيير الكبير فى شكل الأزمات الدولية، والتى لم تعد تقتصر على نطاق محدود، سواء دوليا أو أهليا، وانما باتت عابرة للحدود، مما يساهم بصورة كبيرة فى تشديد القيود، فيما يتعلق بكل مناحى الحياة، بدء من حركة المواطنين وحرياتهم، وحتى قواعد العمل والسلوك البشرى، لتضع "الحرية المطلقة" فى خانة الفوضى، بينما مصطلحات، على غرار "الطوارئ" أصبحت بمثابة ضرورة ملحة لمجابهة التحديات الراهنة.

 

 

وهنا يبدو أن ثمة تحول كبير، فالمفاهيم "سيئة السمعة"، والتى كانت وسيلة للتضييق على الخصوم الدوليين من قبل القوى الدولية الحاكمة فى ظل ابتعاد التهديدات عن أراضيهم، أصبحت بمثابة "فرضا" على الجميع، إلى الحد الذى يدفع إلى الدعوة الصريحة لها فى بعض الأحيان من قبل دعاة الديمقراطية، وأنصار الحرية، خاصة مع أخطار كبيرة باتت على حدودهم، بدء من الإرهاب والصراعات المسلحة، على غرار العملية العسكرية الروسية الراهنة فى أوكرانيا، ناهيك عن الصراع مع الطبيعة، فى ضوء ظاهرة التغير المناخى، وكذلك الوباء، وهى الأمور التى دفعت إلى فرض حالة من الطوارئ الدولية، سواء على المستوى العالمى، تتجلى فى تقييد حركة التجارة والسفر، أو داخل الدول، عبر التضييق على المواطنين، ومن بينها دولا طالما نأت بنفسها بعيدا عن تلك المفاهيم، بل حملت لواء الحرب عليها لعقود طويلة، تحت شعار "الانتصار للحريات" بينما كانت فى الحقيقة بمثابة "العصا" التى حاولوا بها ردع "المارقين".

 

فلو نظرنا إلى مفهوم "الطوارئ" باعتباره النموذج الأبرز، فى المرحلة الراهنة، ربما نجد أنه بات يتخذ أبعاد جديدة، تتجاوز البعد الأمنى الذى كانت تعتمده الدول قبل سنوات قليلة، وإن كان باقيا، فى ظل عودة زمن الحروب، على غرار المستجدات التى تشهدها الساحة الأوكرانية فى المرحلة الراهنة، وهى المعركة التى لم تقتصر فى نطاقها على صراع ثنائى بين دولتين، وإنما تحمل فى طياتها تداعيات صراع طويل الأمد بين الغرب والشرق، وهو ما يعكس خطورة الامر ليس فقط على رقعة جغرافية محدودة، وإنما تمتد إلى مساحة شاسعة تتداخل فيها أوروبا والولايات المتحدة، بينما لا تبتعد عنها قوى دولية أخرى، على غرار الصين، بينما تمتد أثارها إلى مختلف قارات العالم، إثر ما سوف تؤدى إليه من نتائج سوف تنعكس مباشرة على حياة البشر هنا أو هناك، مما يفرض حالة من التأهب العسكرى والامنى فى مواجهة خطر الحرب القائمة التى قد تأكل الأخضر واليابس.

 

طوارئ "أمنية".. شمولية المفهوم تضيف له المزيد من الزخم

البعد الأمنى يمتد، فى إطار مفهوم "الطوارئ"، ليشمل العديد من المناحى، مما يضفى المزيد من الزخم عليه، منها أمن الطاقة، والأمن الاقتصادى فى ظل ارتباط المصالح بين الدول، خاصة فى أوروبا الغربية، وطرفى الصراع من جانب آخر، فالغرب يعتمد بصورة كبيرة على الغاز الروسى وهو ما يؤثر حال الإخلال بالعلاقة مع موسكو على الاقتصاد، بينما تمثل أوكرانيا جزءً مهما من مواردها الغذائية، عبر استيراد القمح منها، وهى الأمور التى ترتبط بحياة المواطنين بصورة مباشرة وبالتالى يبقى أى إجراء غير محسوب تجاه الأزمة الراهنة، من شأنه الإخلال بحياة الشعوب، فى ظل تداعيات كبيرة قد تترتب عليها، ربما تطال الأسعار والسلع الأساسية، وهو ما يبرز احتمالية اللجوء إلى إجراءات مشددة بصورة أكبر فى حالة ممارستهم لحقهم فى "حرية التعبير"، والخروج فى احتجاجات بسبب الظروف المعيشية الصعبة، وهو الأمر الذى تجلت بوادره فى السنوات الماضية فى العديد من عواصم الغرب، بدءً من باريس مرورا بأمستردام، وحتى واشنطن، بينما كانت القبضة الأمنية حاضرة فى التعامل معها.

 

ولعل البعد الأمنى ليس الجانب الوحيد لمفهوم "الطوارئ"، وإنما أصبح هناك أبعاد أخرى، منها، على سبيل المثال الطوارئ الصحية، فى ظل الوباء، حيث تبقى قيود كورونا سببا رئيسيا فى اندلاع التظاهرات فى العديد من مناطق العالم، بسبب ما آلت إليه الأوضاع الاقتصادية، على غرار احتجاجات "قوافل الحرية"، التى اجتاحت عواصم أوروبا وكندا، إلى الحد الذى دفع رئيس الوزراء الكندى جاستن ترودو لاستدعاء حالة الطوارئ بل استبقته الولايات المتحدة بدعوة السلطات الكندية لاستخدام صلاحياتها لانهاء مظاهرات عطلت العمل بجسر حيوى بين البلدين.

 

"الطوارئ المناخية".. الصراع مع الطبيعة بعدا جديدا للمفهوم

التطورات المناخية هى الاخرى ربما فرضت بعدا اخر لمفهوم "الطوارئ"، حيث كانت رئيسة الوزراء النيوزلندية جاسيندا أرديرن أول من أطلق مفهوم "الطوارئ المناخية"، قبل عامين، فى إطار ما يمكن تسميته بحقبة "البيئوقراطية" العالمية، فى ظل قواعد باتت تفرض نفسها على مختلف القطاعات حول العالم بدء من الصناعة مرورا بالتجارة والزراعة وحتى السلوك البشرى العادى، الذى اصبح مقيدا باحترام البيئة، وذلك حتى يمكن مجابهة الخطر المحدق بالكوكب بأسره، وذلك بعيدا عن مفهوم "الحرية المطلقة" الذى تبنته القوى الغربية لسنوات طويلة، والذى وصل إلى حد تقديم الدعم الصريح للفوضى فى بعض الدول، وهو ما تجلى فى أبهى صوره إبان ما يسمى بـ"الربيع العربي"، فى ضوء حالة من الخلط بين مبادئ الحرية وحقوق الإنسان من جانب، وحفظ الأمن والاستقرار من جانب أخر.

 

وهنا يمكننا القول بأن التغيير الذى بات يشهده النظام العالمى لم يعد قاصرا على تغير موازين القوى، أو توارى دول مقابل صعود أخرى، أو حتى تغير القواعد الحاكمة فى النظام العالمى، وإنما امتدت إلى تغيير الصورة الذهنية المرسومة عن المفاهيم المتداولة، لتصبح جزء لا يتجزأ من الخريطة الدولية الجديدة، بعيدا عن التابوهات "المعلبة" التى دأب الغرب على تصديرها، دفاعا عن مبادئ سعوا إلى تسييسها لتحقيق مصالحهم، بعيدا عن المعطيات والظروف التى ترتبط بكل منطقة.


 

 

هذا الخبر منقول من اليوم السابع