محمد فاروق يكتب: نجيب محفوظ.. الراحلُ العظيم

محمد فاروق يكتب: نجيب محفوظ.. الراحلُ العظيم
محمد فاروق يكتب: نجيب محفوظ.. الراحلُ العظيم

كنتُ محظوظا بالطبع عندما أتاحت لي المصادفة أن التقيه وأقترب من شخصه العظيم.. في الأيام الأولى من شهر أغسطس عام 1990 وبينما كانت أنباء الغزو العراقي للكويت تحجب الآفاق، اصطحبني صديقٌ لي يعرف ميلي واهتمامي بالكتابة والأدب، إلى جلسة اعتاد أن يقيمها أديب مصر الكبير الأستاذ نجيب محفوظ - رحمه الله - بكازينو قصر النيل في يوم الجمعة من كل أسبوع.. ما إن دلفت من الباب الرئيسي للقاعة، حتى رأيته جالساً إلى إحدى الطاولات جهة اليمين وقد تحلق حوله مريدوه..

من خلال نافذة كبيرة مواجهة رحت أرقب سفينة شراعية صغيرة شقت عباب الماء في نعومة أثناء مرورها بالقرب منا.. انتشلني صوته الأجش من غفوتي.. كان أحد أصدقاء الأستاذ، موظف كبير بالمعاش اعتاد الجلوس بجواره وأن يبدأ حديثه معه بعبارة "يا نجيب بك ....".. وتصادف يومها وجود الكاتب والمؤلف المسرحي الأستاذ على سالم، الذي ألقى خطابا ارتجالياً هاجم فيه صدام حسين، وأنهاه بطريقة إيحائية ذكرتني بالخطب الدرامية المؤثرة لأبطال وشخوص مسرحيات الكاتب الإنجليزي الأشهر "وليام شكسبير"..  

برهة قصيرة مرت قبل أن يتهادى إلينا من بعيد صوت آذان المغرب، لينصرف الخطيب المفوه ـ الذي استدعى تصفيق الحاضرين ـ إلى صلاة سرعان ما فرغ منها وعاد مرة أخرى ليحتل مقعده الأثير.. وبعد أن استقر أخيراً في جلسته، وجهت حديثي إليه فساد شيء من الصمت والترقب بين الحاضرين - وقد كان من عادة الأستاذ نجيب محفوظ أن يتابع تلك النقاشات التي كثيرا ما كانت تنشب داخل صالونه الأدبي- قلت موجها كلامي للأستاذ عليّ سالم: كلنا متفقون على أن ما قام به صدام حسين جريمة كبرى لا يمكن أن نغفرها بحال.. لكنك نسيت أن التاريخ يحمل حوادثه المتشابهة والمتكررة فوق رأسه ويدور بها في حلقة مفرغة لا تنتهي!!.. لماذا نغفل حين نُدين صدام حسين، أن الرئيس الراحل جمال عبدالناصر قد ارتكب الخطأ نفسه، عندما جرّنا لحرب اليمن؟!!.. لماذا ننسى أن تلك الحرب تسببت في انهيار الاقتصاد المصري وبعد ذلك في الهزيمة الفادحة عام 1967؟!!.. ما أعرفه أن عبدالحليم حافظ غنى للقائد وقتها وهللت الجماهير للفاتح العظيم!!.. لكننا لم نسمع أن أحدا أنكر عليه حربه في اليمن!!.. بدا الرجل متحرجا وتلعثم حين حاول أن يجيبني، فلم أكن أعرف أن أغلب الحاضرين من دراويش الناصرية، ولولا بقية من حياءٍ تجاه الكاتب الكبير، لألقوا بي إلى قاع النهر الخالد وهم سعداء!!.. كانت تلك هي المرة الأولى التي يتدخل فيها صاحب نوبل في نقاش جرى داخل الجلسة، فلم يكن شيئاً ليغير من عادته أو ليخرجه عن صمته، اللهم إلا سؤال يوجهه إليه أحدهم، أو قضية يطلب رأيه فيها.. لكنه خالف طبيعته هذه المرة وحدثني، فجاء صوته رصيناً محملا بأبوة حانية وتواضع دائماً ما عُرف عنه.. حاول أن ينتشلني إلى المنطقة الوسطية التي طالما كان سيدها وسيد الرمز، عندما كتب أرائه السياسية كلها متخفياً وراء شخوص رواياته الاستثنائية.. وقبل أن ينهي حديثه معي قال: "عليك أن تدرك أن حقبة عبد الناصر اتسمت بشيء من الرومانسية السياسية".. شجعتني نبرته الهادئة على أن استمر في مجادلته محتجاً بأنني لا أذكر أنني صادفت - في كل ما كُتب عن التاريخ - أي حادثة تؤكد أن السياسة والرومانسية سارتا يوماً في طريق واحد!!..

 لم أدرك وقتها أن تحليله الموجز كان انتقادا لاذعاً لذلك العصر المظلم ولتلك التجربة المريرة، فقد اتفق معي ـ دون أن ألحظ ـ وأدان عبد الناصر وحكمه في عبارة واحدة مالت إلى الرمزية التي أتقنها، واستحضر فيها كل موروثه الفكري والفلسفي العميق!!.. بساطة أديبنا الكبير وتواضعه ودماثة خلقه، غفرت لي جرأتي..وحين تعالت ضحكته الرائعة ومازحني متلطفاً، كانت تلك المحادثة قد أشرفت على نهايتها، لتظل عالقة بذهني طوال سنوات كثيرة مرت بعد ذلك..

انتهى اللقاء ووقف الأستاذ بجوار طاولته، فتجمع الحاضرون حوله ليصافحوه مودعين، لكن حرجاً أصابني وكبَّل قدمىَّ فالتزمت مكاني ولم أجرؤ على الاقتراب منه، فحتى تلك اللحظة لم أكن أصدق أنني تحاورت مع الفيلسوف والروائي العظيم!!.. ويبدوا أنه شعر بما ألم بي من تحرج وارتباك فاقترب مني في طريقه للخروج وابتسامته الشهيرة تعلو وجهه وبادرني مترفقاً ومصافحاً!!..

رحم الله عملاق الأدب العربي وسيد الرواية الكاتب الكبير الأستاذ نجيب محفوظ، فقد كان بحق آخر العظماء.

 

 

محمد فاروق

badr.mostafa1966@gmail.com