هدى حجاجى أحمد تكتب: " أحزان الرجل القديم " دراسة نقدية للدكتور (محمد مصطفى هدارة)

هدى حجاجى أحمد تكتب: " أحزان الرجل القديم " دراسة نقدية للدكتور (محمد مصطفى هدارة)
هدى حجاجى أحمد تكتب: " أحزان الرجل القديم " دراسة نقدية للدكتور (محمد مصطفى هدارة)

هذه المجموعة القصصية للقاص سعيد بدر استطاع أن يلمس أعماقا انسانية وان يستخدم أساليب كثيرة يبتعد فيها عن السرد والحكاية ويستخدم الوانا من الحوار ومن التحليل.

ولابد أن نعيش معا فى أعماق هذه القصص لنستكشف بعض معانيها شكلا ومضمونا . فمع أول قصص هذه المجموعة " السيدة العجوز " نجد ألقاص قد نجح الى حد كبير فى تحليل المشاعر والخواطر النفسية التى تعتمل فى نفس هذه السيدة التى صدر قرار بهدم بيتها وهى متشبثة بهذا المكان الذى عاشت فيه حياتها واستطاع القاص أن يستخدم فى التعبير أسلوبا قصير العبارات فيه ايقاع وتوزان , ولا شك أن ال نجح فى التعبير بالصورة والصورة عمادها عند القاص الكلمات , القاص يرسم بالكلمات والكلمات تكون الصور والصور توحى بما يريده القاص بعيدا عن أملاك السرد ونمطية الحكاية التى تعرفها فى القصة القديمة , وهذه الصور تقترب الى حد كبير من الشاعرية بل الروح الشعرية تسيطر على الكاتب يقول : تسلقوا الجدران – اعتلوا واجهة البيت عبارات قصيرة جدا وفيها تناغم وتوزان " الشرخ فى الجدران عميق " العبارة هنا بعيدة عن النمطية وروح الحكاية والسرد لا يقول كان كذا وحدث كذا كما يفعل القاص القاص القديم انما يتخذ أسلوبا جديدا فى التعبير بالصورة فهو يرسم بالكلمات " كذلك سنجد بالقصة مفاتيح مهمة جدا لفهمنا لها مثلا لو وقفنا عند عبارتى "الشرخ فى الجدار عميق " .

"كنت أكافح السقوط" لادركنا انهما مفتاحان مهمان فى بناء القصة . جملتان .

ولكن فى كل جملة تتكاثف المشاعر والرؤى عند هذه السيدة العجوز , الشرخ هنا ليس شرخا ماديا فقط ولكنه شرخ فى نفسية هذه المرأة التى عاشت حياتها فى هذا البيت . ثم عبارة كنت " أكافح السقوط " والسقوط هنا أيضا ليس سقوطا ماديا فقط بل هو سقوط معنوى هو ضياع العمر عند هذه السيدة . كل نجد التصوير البطئ يبلغ حدا كبيرا من الجمال فالقا ابطأ فى التعبير تماما عند نزول الر قبل نهاية القص تمهيدا لهذه النهاية غير المتوقعة لأنه بطبيعة الحال البيت سقط وكنا ننتظر جميعا النهاية المحتومة لهذه الاقصوصة ان تموت السيدة . " وبدأ وجه السيدة العجوز . مغمضة العينين يتقاطر من بين تجاعيده "كركم أصفر " وصل الرجل الى حافة الواجهة استدار تحسس بمشط قدميه أول درجات السلم لم يكن ثمة دعامة يعتمد عليها حركة حذرة متوجسة بحثا وتلمسا أول درجة من السلم مؤشر يحرك العيون من أسفل كادت تستقر أول قدم ... " زاد الدهشة الجميع حين شاهدوا السيدة العجوز تتعلق برقبة الرجل بيد واحدة فقط كانت اليد الأخرى تلوح بالعقد الجديد

نجاح القاص فى هذه القصة يعتبر نجاحا واضحا جدا فى التحليل والمراوحة بين الالتفات والغيبة وفى استخدام الايقاع واستخدام الموسيقى استخداما جيدا والاقتراب من الشاعرية الى حد كبير وفة وجود مفاتيح للقصة فى عبارات قصيرة حية . أما عن قصة " أحزان الرجل القديم " – التى سميت المجموعة بأسمها – فهى من القصص الجيدة جدا فى هذه المجموعة تصوير مشاعر فلاح فقير كل ما يملكه فى الحياة بقرته الوحيدة . وهذه البقرة تعرضت لمحنة أزمة صحية وحاولت الأيدى أن تنقذها بأن تذبحها ولا يخسر كل ماله بموت البقرة . لكن الرجل عنده اصرار عجيب لأنها حياته كل ثروته

■ ■ ■

يريد أن تنهض البقرة يريدها ان تعيش . نهضت البقرة بعد هذا معجزة لكن القاص نجح الى حد كبير فى ايجاد علاقة توحد بين الانسان والحيوان فى المشاعر تحس بأن كيان الرجل ذاب فى هذه البقرة كأنه منحها جزءا من حياته ووجوده , نهضة البقرة وعودتها للحياة مرة أخرى تحس فيها ما يشبه المعجزة كأنها احدى معجزات المسيح عليه السلام بعد اندثار وانهيار كامل .

النهاية السعيدة هنا كالنهاية السعيدة فى القصة الاولى ليست مجرد حدوته تنتهى نهاية سعيدة لكن النهاية السعيدة هذه رمز لانتصار الانسان ورمز الصمود ورمز للايمان , ايمان الرجل ان تعيش البقرة بملامسته الحية لها وتوحده معها , بالفعل نجح القاص فى تصوير هذا كله فاستطاعت البقرة ان تعيش . سنجد فى قصة " الحمل الكاذب " لقطة شاعرية متدفقة " ضربتنى الشمس " فوق رأسى . تعثرت قدمى . فى الصور جمر متقد . والعقل شتات , موجات الطائرات تهدر . تصك السمع . الاشلاء تتناثر فى الجو تعمى الابصار . على الرمل الساخن غير مستطاع الاحتمال . اغرز القدم . أغز الخطى فى تيه لا نهائى " . جنوح القاص الى هذه الشاعرية فى تحليل دقيق توضح الى حد كبير ما يريد ان يقوله . هنا سنلاحظ التنقل فى أجواء مختلفة . بعض القصاص نمل القراءة لهم لأنه لا يكاد يخرج عن اطار واحد وينبعث من بؤرة واحدة حتى لو كانت هذه البؤرة حية تتمثل فى حارة ضيقة فى شارع فى بيئة فقيرة لكن "سعيد بدر " يتنقل بنا فى أجواء مختلفة جدا وبعين فاحصة تلتقط مواقف درامية تنبعث فيها الحياة بكل قوة هزيمة 1967 الاطار الموضوعى فى مضمون هذه القصة هزيمة ثقيلة بطبيعة الحال لم يصورها تصويرا نمطيا ولكن صورها من خلال مأساة أسرة كان الحمل بالنسبة للزوجة كاذبا فى النهاية وفى هذا رمز للضياع والاحباط واليأس الذى انتاب الشعب بعد الهزيمة القاسية الحمل الكاذب ليس مصادفة وليس نهاية مفتعلة بعد كل هذه التوقعات والفرح والاستعداد . كل شئ أعد لتلقى الوليد ولا وليد .

 ■ ■ ■

عيب هذه الاقصوصة أنها طويلة وان الاحداث متداخلة وان كان المؤلف لا يركز على الشخصية كبعض القصاص لكن يركز على الحدث هنا الأحداث تتشعب الى حد ما وكان من الممكن أن تحذف بعض هذه الأحداث وبعض أجزاء الأقصوصة حتى تكون قريبة التأثير مناسبة للهدف الذى صنعت من أجله . فى قصة " هموم رجل بسيط " هموم انسان فى مجتمع يحللها الكاتب فى صدق وشاعرية , أكوام القمامة هى الواقع الذى نعيشه فى مجتمعنا فى المرحلة الراهنة , والحديقة التى يتمنى السكان أن يجدوها بدلا من مقلب الزبالة هى الأمل والتطلع للمستقبل , ونتطلع اليها .

فى " يوميات حارة اليهود " يبتعد المؤلف عن السرد تماما ويستخدم فن السيناريو استخداما جيدا وذكيا عن طريق اليوميات : يوم الميلاد " ولد فيه الحب لأخت سمعا نفى حارة اليهود " وكما يقول المؤلف من رحم الغيب وليدا " ثم يوم الرحيل : رحيل اليهود بعد سنة 1956 انقطاع الأمل باليأس , ثم يوم تجديد الحب والأمل ثم يوم اللقاء هذا اليوم , تصوير الشئ غيرى لأن الحروب باعدت بين الحبين يوم الفرح لا فرح فيه الحب الصغير يذوب فى الحب الكبير . والحب الكبير هو حب الوطن والمصلحة التى توحد بين هذين العاشقين , لم يبق فى هذا الحب جانب المرأة ذات الدفء والحنان بل وجد فيها كما يقول ملامح من البلاستك كل شئ أصبح زيفا كل حب انفرط عقده وأصبح هباء . لأن هذا الحب كان حبا محرما وعاد حبا محرما بعد اللقاء .

■ ■ ■

أما قصة " البحث عن خلاص " فتتميل الى التسجيلية واعتقد انها تسجيل لمقطع من حياة المؤلف . كما أخذ عليه بعض الألفاظ مثل " شمولية اطماع " فكما قلت لابد لكل كلمة فى القصة القصيرة ان توزن بميزان دقيق " شمولية الاطماع " تعبير غير فنى كما ان الكاتب يفكر فى هذه القصة بصوت عال . فكما يقول " برنارد فوتو " فى مسرح العرائس الأطفال يكونون مشدودين للمشهد لكن لو عين الطفل لمحت الخيط الذى يحرك الدمى سيفقد الاتصال تماما وتنهار الرؤية الفنية . ولذلك لا نريد أن تظهر الخيوط التى تحرك الشخصية ومن هذه الخيوط الأفكار العالية التى يظهرها القاص . " الثمن " مستوحاة من الفلكلور الشعبى من أقاصيص الجن وحكايات العفاريت التى تروى دائما أن واحدا من الجن أحب فتاة من الأنس والعكس أيضا . التقطها سعيد بدر ليثرى رحلتنا معه فى هذا الميدان الفسيح لكن يبقى الفلكلور الشعبى اطارا شكليا والمضمون الحقيقى الذى هو فى صميم الحكاية ان سعى الانسان للمعرفة لا يمكن أن يكل " ولو ضمن فى عدم المعرفة سعادته " . وهذا السعى قد يكون فيه دماره تماما كسعيه لمعرفة الغيب " لو اطلعتم على الغيب لاخترتم الواقع " . لكن الانسان لا يمكن ان يرضى بهذا بالرغم ان الفتاة فى هذه الاسطورة رفعها هذا العاشق من الجن وأغناها وأخرجها من حزنها بعد انهيار بيتها الذى احترق وكل شئ صار فى حياتها الى الأحسن لكنها ظلت تريد أن تعرف من هو هذا العاشق وحذرها قبل ذلك فضربت بتحذيره عرض الحائط وكانت النتيجة ان أصيبت بالعمى . صحيح ان الفلكلور اطار شعبى مشهور ومعروف حكاية اتصال الانس بالجن وعشق النوعين بالرغم من التضاد بينهما لكن المضمون الفعلى للحكاية هو ان سعى الأنسان لمعرفة الغيب معرفة ما حرم عليه معرفته تكون النهاية فيه سيئة وغير سعيدة وأن تطلع الانسان للمجهول جزء من كيانه ووجوده سببا وراء المعرفة ذاتها .

وقصة "الزيارة " لقطة ذكية لزيارة زوجة مسجون يبدو واضحا انه تاجر مخدرات ,, آتت السيدة . بسيارة فارهة ومعها طفلتها الصغيرة الطفلة لم تأت هنا اعتباطا لكن فيها رمز جميل وفيها اسقاط . والتناقض العجيب الموجود فى القصة يطلعنا على التناقض الموجود فى المجتمع , لم يعد من يملك المال هو صاحب العقل والثقافة والرأى انما يملكه حثالة الناس , استخدم الكاتب العبارات المشهورة " الأرنب " ونص " الأرنب " للايحاء بهذا الجو الذى أراد أن يرسمه , جو تجار المخدرات الذين يملكون الملايين ويدمرون المجتمع بجهلهم ومالهم الحرام .

■ ■ ■

وفى قصة " الارث" أخذ على القاص موضوع التفسير . القاص ليس مطلوبا منه التفسير أبدا , نحن معه فى الايحاء والدلالة الشاعرية للكلمة فى الرسم بالصورة لكن التفسير يخرج القصة عن جمالها الفنى مثال لذلك " يدق الناقوس بعيدا كأنه معلق فى سقف كنيسة عالية يتأرجح بطيئا حزينا . كأنه يعلن عن موت انسان " كان يجب أن تتوقف العبارة عند " يتأرجح بطيئا حزنيا لتعطينى الايحاء , لكن التفسير الزائد عن عبارة " كأنه يعلن عن موت انسان " أفسد الأقصوصة وهناك عبارات كثيرة مثل هذه فى هذه القصة بالذات . هذه لقطات سريعة للمجموعة القصصية " أحزان الرجل القديم " للقاص سعيد بدر لكننى فى النهاية أريد أن أقول ان الربط الذى يربط بينها هى الواقعية ليست الواقعية التسجيلية لكن واقعية انسانية يلتقط مشاهد من الحياة منمواقف درامية حية يلتقطها بذكاء كما نقول ان القصة القصيرة عبارة عن شريط صغير ضيق , لقطة واحدة وهذه اللقطة يركز عليها القاص وقد نجح سعيد بدر الى حد كبير فى هذه اللقطات فى معظم قصصه . كما أن شخصياته قليلة جدا فهو يهتم بالحدث أكثر من اهتمامه بالشخصيات طبعا هذا اسلوب فى القصة القصيرة يمكن لبعض القصاص ان يهتم بالشخصية أكثر , لكن نرى فى القصة الجديدة أن اهتمام بالحدث فيها أهم بكثير من الاهتام بالشخصية . كما ان القاص متعاطف مع النماذج البشرية التى تمثل الضعف الانسانى فى حالات معينة . وهو يريد من هذه الشخصيات أن ترتفع فوق الحدث وفوق النهاية المؤسفة المتوقعة وقد نجح فى ذلك .

ويعطينا الاحساس بصمود الانسان بالأمل فى المستقبل بالرغم من هذه المواقف الحزينة التى نجدهامنتشرة فى القصص . والبعد الاجتماعى واضح فى الاقاصيص والمؤلف لا يريد ان يقف فوق منبر عال ليتكلم عما يجده فى المجتمع من مساوئ , أبدا انما يشير اشارات خفيفة الى هذه المشكلات الاجتماعية والمشكلة التى تعينه أكثر من غيرها فى أغلب قصص هذه المجموعة مشكلة المسكن والطرد والاخلاء الادارى .

أما عن الاسلوب فقد نجح فيه الى حد كبير فى حيوية الحركة والتوافق وقوة دلالة العبارات . " لا يوجد ترهل فيها , الكلمات موحية الا فى بعض المواقف التى أشرت اليها سابقا . لكن فى كل المواقف كان الأسلوب القصصى جيدا جدا ويبشر بخير كثير . إن هذه المجموعة القصصية ممتعة حقا فهى تمتع العقل والفكر ويشعر الانسان عندما يقرأها انه فى داخل المجتمع وأعماقه فى أعماق الناس وفى داخل مشاعرهم وقد نجح القاص فى ان ينقل القارئ الى الناس والى داخل المجتمع .