الجيش المصري هو ضمير مصر، لايحمل بين أفراده أيدولوجيات ولا عرقيات ولا أقليات، إنه الجيش الوحيد الذي يتكون من جنود مصريون لايحملون في عقيدتهمسوى حماية الوطن، ومن يزايد عليه اليوم ويستقوى بالخارج ويستعين بالخونة لقتل جنوده غدراً وخسة عليه أن يعلم أنه إلى زوال وأن الجيش المصري باق ان شاء الله، الجيش المصري الذي ساند الشعب في كل ثورات تحرره من المحتل أو من الطغاة أو من الديكتاتوريات التي حكمته يوماً، سيظل وفيا لوطنه وسنظل أوفياء له فلولا وقوفه بجانب الشعب في ثورتي يناير ويونيو ما انتصرت ارادة الشعب المصري، تحية للجيش في ذكرى ثورة 23 يوليه وحمى الله مصر.
كان من الضروري ونحن نحتفل بذكرى ثورة يوليو هذا العام أن نقرأ معاً "هذا الكتاب المهم جداً " مذكرات خالد محي الدين " لنتعرف من خلاله على بطل مصري حر هو القائقام يوسف صديق، الذى كان له الدور الأول في نجاح ثورة 23 يوليو، اذ كان هو اول من اطلق شرارتها واكثر من حافظوا على مبادئها التي قامت عليها" ففى "الحلقة الخامسة" من مذكرات خالد محي الدين فى "الاهرام" عدد 19 ديسمبر 1992 يحدثنا خالد محى الدين عن دور يوسف صديق فى ثورة 23 يوليو 1952، وهو على ابواب مقر قيادة الجيش "فقد اقتحم بقواته الدور الارضى وقام بتفتيشه، ولم يكن به احد وصعد هو وجنوده، حاول ان يفتح باب مكتب رئيس الاركان لكن الباب كان مغلقا، وكان البعض من الداخل يحاول منعهم من فتح الباب.
امر يوسف صديق جنوده باطلاق رصاصهم على الباب واقتحموا الغرفة ليجدوا اللواء حسين فريد رئيس اركان حرب الجيش واللواء حمدى هيبه وضابطا آخر يرفع منديلا ابيض.. وجلس يوسف صديق على مقعد رئيس اركان حرب الجيش، وبدأ يصدر اوامره من هناك. ولعل جلسته هذه تعنى الكثير." ويسجل خالد محى الدين هذه الحقيقهالتاريخيه: "وبهذا المعيار يمكن القول ان يوسف صديق قد حقق عملا تاريخيا هاما، وانه قد اسهم بشكل كبير ومباشر فى انجاح حركتنا. وقد كانت شجاعته الحاسمة والآسرة فى آن واحد عاملا من عوامل نجاحنا" فى الفصل الثانى من "اوراق يوسف صديق" وهو اهم واخطر فصول الكتاب اذ يحتوى على مذكرات يوسف صديق تحت هذا العنوان الدال عميق الدلاله "ليلة عمرى" نقرأ: "على الدرج الحجرى الطويل الذى يتصدر مبنى القيادة العامة، جلست وجلس حسن احمد الدسوقىبجانبى.. ساد جلستنا صمت لبعض الوقت، قطعته بتساؤلى: "هل تعلم سببا لتأخر القوات الاخرى عن القيام بدورها؟" فأجابنى حسن انها لم تتأخر ولكن انت الذى تقدمت، فلم تكد تحين ساعة الصفر بعد. وسألته فى عجب: "كم هى ساعة الصفر فيما تعلم؟" فأجاب: "انها الساعة الواحدة من صباح اليوم (23 يوليو)" ويقرر يوسف صديق "وكانت هذه هى اول مرة اعلم فيها اننى قمت قبل ساعة الصفر بساعة كامله.
ولقد كان الضابط (زغلول) الذى حمل لى ساعة الصفر وزغلول ضابط يعلم ان التقديم فى الوقت كارثة كالتأخير تماما خصوصا اذا كان بوقت طويل. فساعة كاملة تعتبر وقتا طويلا فى مثل هذه الظروف" ويقول يوسف صديق وهو يحاول ان يصل الى هذا السر وراء حرص زغلول عبد الرحمن ان يحمل ساعة الصفر المتفق عليها: "ومع ذلك فانه (زغلول) حضرنى وانا اجمع ضباطى قبل انتصاف الليل واصدر اليهم اوامرى، ثم رآنى وانا استولى على اللوارى واضع جنودى فيها بعد ان خطبت فيهم، فكشفت لهم عن العمل الكبير وهيأتهم لاستقباله ولم يحرك ساكنا، ولم يعترض على هذا التبكير... كل ذلك جعلنى اعتقد اننى تصرفت حسب الخطة الموضوعة واننى تحركت فىموعدى المحدد" ويعلق يوسف صديق.. ومعه كل الحق: "اذهلنى الخبر الذى سمعته من حسن احمد الدسوقىبتحركى قبل الموعد المرسوم بساعة كامله.. وجعلنى استغرق فى صمت طويل محاولاً أن استعيد فيه احداث تلك الليلة العجيبة".. ثم يقرر اخيرا.. ومعه كل الحق ايضا: "لقد تحركت قبل الموعد بساعة كامله، ومع ذلك فاننى كنت ادفع الخطر من على الابواب" وفى هذا الكتاب نقرأ ماكتبه نبيل زكى تحت عنوان "التاريخ المظلوم" "فى متحف القلعة توجد قاعة مخصصة لتاريخ ثورة 23 يوليو 1952. تحتوى القاعة على تماثيل نصفيه لاعضاء مجلس قيادة الثورة.. ومما يلفت النظر انه لايوجد بين هذه التماثيل تمثال لعضو قيادة الثورة البكباشى يوسف منصور صديق رغم ان الرجل كان من ابرز ابطال تلك الثورة واكبر المساهمين فى نجاحها..
ومما يلفت النظر ايضا ان يوسف صديق لم يرد فى قائمة اسماء الضباط الاحرار المعروضه بالمتحف" ويسجل لنا نبيل زكى اعتراف جمال عبد الناصر بدور يوسف صديق" "ان قائد الثورة نفسه –جمال عبد الناصر- تحدث فى خطابه الشهير عام 1962 فى ذكرى الثورة عن دور يوسف صديق بكل تفصيلاته فى نجاح الثورة وقال "انه لولا خروج كتيبة يوسف صديق من معسكر الهايكستيب قبل ساعة الصفر بساعة واحدة لكانت الثورة قد فشلت" وتسجل لنا " بهجة حسين " هذه المفارقة عندما لم نجد تمثالا للبطل يوسف صديق فى المتحف الحربى " حيث رسم الفنانون الكوريون الذين اشرفوا على اعمال المتحف لوحة زيتيه تتصدر القائمة ( الخالية من اسم يوسف صديق) تصور لحظة اقتحام يوسف صديق لمبنى قيادة الجيش" ويحدثنا يوسف صديق فى " ليلة عمري" عن ساعة الصفر التى حملها رسول القيادة زغلول عبد الرحمن. ".. انفرد بى زغلول وافضى الى بآخر الاوامر، وكانت تحتوى على ساعة الصفر (منتصف الليل) وكلمة السر (نصر) كانت هذه الرسالة التي حملها زغلول..وقابلت زغلول كثيراً بعد ذلك وبعد نجاح الثورة فكنت اسأله عن حقيقة ساعة الصفر التي بلغها.
فكان يبتسم ولا يجيب" وكم كنت أتطلع أن استمع إلى زغلول عبد الرحمن وهو يجيب على تساؤل يوسف صديق.. وبقى زغلول عبد الرحمن مع يوسف صديق حتى منتصف الليل.. ويقول يوسف صديق: "وعند منتصف الليل كنا جاهزين للتحرك فى ساعة الصفر تماما" وفى الطريق تم هذا اللقاء غير المتوقع بين يوسف صديق وبين جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر فى ملابس مدنيه. وقال جمال عبد الناصر "ان امر الحركه قد انكشف للملك الذى كان يصطاف فىالاسكندريه. وانه تم الاتصال بالقيادهفى القاهرة، وان هذه القياده مجتمعه فى مقرها لاتخاذ اجراء مضاد " وكان رد يوسف صديق "فشكرته على هذه المعلومهالجديده، واخبرته اننى كنت قد قررت احتلال القياده، واننى سأقوم بذلك فورا" واسرعت الى عربتىفى مقدمة القوة" وفى نهاية " ليلة عمرى" يقول يوسف صديق: "ان كل نجاح صادفناه فى تلك الليله انما جاء نتيجة خطأ وقعنا فيه فى تدبيرنا فخروج ساعة قبل الموعد كان خطأ لاشك فى ذلك، فأن الخطة العسكرية توضع متماسكة متكاملة.. ولما كانت طبيعة الامر تقول ان الخطأ يوصل الى الفشل، غير ان حوادث الليله بينت بوضوح ان الخطأ لم يوصلنا الى النجاح فحسب، بل انه الحل الوحيد الذى بنى عليه النجاح" ولكنى اقول وانا اختلف مع يوسف صديق ان نجاح الثورة لم يبن على خطأ.. بل ان هذا النجاح بنى على تخطيط وعلى خطه واضحه كل الوضوح فى عقل واضح هذه الخطه.. وكان اختيار يوسف صديق لهذه الخطه اختيار حكيم. اقول وارجو الا اكون مخطئا.
احاول ان اجيب هذا التساؤل: "لماذا حمل زغلول عبد الرحمن الى يوسف صديق ساعة صفر متقدمه ساعة كامله عن ساعة الصفر المتفق عليها؟" مما لاشك فيه ان جمال عبد الناصر كان العقل المدبر والمخطط لحركة الضباط الاحرار.. كان يملك هذا الحذر وهذا الحرص وهذه المخاوف التى تصاحب مثل هذه الحركة الخطرة والمهددة بالفشل بسبب من اهون الاسباب. وكان يملك ايضا هذا القدر من الدهاء والذكاء مما اهله ان يكون المايسترو والقائد لهذه الحركه بكل تفاصيلها. فهو الذى اختار محمد نجيب قائدا لهذه الحركهالعسكريه. وتحمل محمد نجيب –كما يقرر خالد محى الدين- المسئولية العسكريهوالسياسيه امام الجميع. وهو الذى كلف –فيما ارى- زغلول عبد الرحمن ليحمل ساعة صفر الى يوسف صديق.. متقدمه ساعه كامله عن ساعة الصفر المتفق عليها.. ولهذا حرص زغلول عبد الرحمن على البقاء بجانب يوسف صديق حتى ساعه الصفر الخاصهبه. وكأن تحرك يوسف صديق كان بمثابة التجربه البيضاء التى يجريها العالم فى معمله قبل الاقدام على احدى تجاربه الجديده.
ولحسن الحظ - حظ حركة الضباط الاحرار - ان جمال عبد الناصر اختار واعيا يوسف صديق ليقوم بهذه المهمة الانتحارية –طبعا بدون علم يوسف صديق –ولعل هذا التفسير يؤكده وجود جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر بملابس مدنيه. اذا كان جمال علم ان فاروق قد وصلته انباء حركة الضباط الاحرار.. وكان من الممكن ان يقبض على قادة الحركة جميعا وتفشل الثورة لو لم يتحرك يوسف صديق عن طريق جمال عبد الناصر (اى زغلول عبد الرحمن) قبل ساعة الصفر بساعة كامله.. ولهذا اقول وانا مطمئن ان نجاح حركة الضباط الاحرار لم يبن على خطأ.. بل بناء على خطه محكمه وتخطيط دقيق.. ويعترف جمال عبد الناصر "انه لولا خروج كتيبة يوسف صديق من معسكر هايكستيب قبل ساعه واحده لكانت الثورة قد فشلت" وعن "ليلة عمرى" يقول يوسف صديق –الذى سعدت به جارا عزيزا من الزيتون فى الخمسينات ".. وقد بنيت احداث تلك ان الدور المتواضع الذى قمت به كان له اثره المؤكد فى ارساء قواعد الثورة وذلك بضرب كل القوات التى حاولت اخماد الثورة –بالعمل المضاد- فى الوقت المناسب" ويقول يوسف صديق.. الشاعر الثائر.. معبرا عن حياته وسلوكه كمواطن مصرى صادق الولاء وعميق الانتماء لوطنه: انا وهبنا للجهاد نفوسنا لانبتغى رتبا ولا اطماعا والمؤمنون المخلصون يزيدهم ظلم الحوادث شدة وصراعا وكان اهداء "اوراق يوسف صديق" "الى الدكتور يوسف صديق محمود توفيق – حفيد يوسف صديق- الذى ولد فى 4 يناير 1955.. وكان جده معتقلا بالسجن الحربى" وقد اهدتنىالصديقه سهير يوسف صديق هذا الكتاب "اوراق يوسف صديق" فور صدوره عام 1999 عندما كنت فى القاهرة. قرأت هذه الشهادة الصادقة كل الصدق وتوقفت طويلا عند "ليلة عمرى" وبخاصه عند "ساعة الصفر" التى كانت البداية الحقيقية لثورة يوليو 1952.