مرتديًا ..
أبهى ما لديه من ثياب, ولما لا واليوم هو في لحظات ربّما ظل يذكرها طويلًا,
وتحتفظ بها الذّاكرة, في جو غمرته كلمات الحب والثناء وتقديم الهدايا, في إشارة لسنوات من العمل الجاد والعطاء, وما بين التقاط بعض الصور التذكاريّة وأحضان وكأنّما هي لوداع, وبينما يحاول القاء كلمته أمام حشد كبير من الأهل والأصدقاء, هاجمته العَبرات يملؤها سيل من الدّموع, حتى أرغمه جلال تلك اللحظات أن تتقطّع كلماته, ولولا أن ما لديه من ثبات لم ينفد بعد, لما استطاع أن يكمل كلمته, ولغادر المكان هربًا من تلك الأحاسيس التي جعلت منه طفل فقد الأمان بفقد يد أمّه في طريق مزدحم.
بقدمه طرق باب الشّقة, إذ انشغلت يديه بما كان ما يحمله من هدايا زجاجية ويخشى عليها من الكسر أو الاصطدام بالأرض, ومع استقبال حافل من ابنتيه وزوجته, انهمكا أولا فيما كان يحمله, بحثًا عن أكثر الهدايا قيمة, ربّما كان من بينها ما يصلح لهما ( تليفون محمول أو لاب توب مثلًا) ولما لم يحالفهما الحظ بما ذهبا إليه من أمنيات وأحلام, اتخذ الحديث منحى أخر عن قيمة المكافأة والمعاش.
استسلم قليلًا لراحة جسده المنهك ربّما أو هي أوقات لاستعادة بعض طاقته المهدرة لسنوات من العمل, إلا أن حديث ابنتيه عن المكافأة وأنها الملاذ الأخير لتحقيق بعض تلك الأمنيات المؤجّلة, ارّقه كمن يتقلب على جمر يمنة ويسرة, لعلمه بقيمة المكافأة, لا سيّما وهو موظف درجة أولى فنيّة لإحدى المستشفيات, ولا تعادل قيمتها شيئًا أمام ما يتقاضاه عامل في إحدى المؤسسات الأخرى( البترول, القضاء, البنوك, الكهرباء, الضّرائب, وغيرها ...).
أيام قليلة شعُر خلالها بحريّة من قيد العمل والاستيقاظ المبكر, يقرأ جريدة يوميّة ربّما
لم تكن أعدادها متجدّدة, هدأت نوبات جنون هاتفه المحمول, تدق رأسه كل صباح بموعد استيقاظه, إلا أن زوجته تكفّلت بتلك المهمّة منذ ذلك التّاريخ, فقد تأخر صرف المكافأة وكان لِزامًا عليه الذّهاب إلى البنك لمعرفة بعض التّفاصيل وسبب التّأخر, خطوات قليلة شعُر خلالها بوخزات الم مُبرحة, كأنّما هي ابر غاصت في لحم باطن القدم, وما إن وطئت أقدامه صالة البنك, اتّسعت فتحتي انفه لاستنشاق هواء ربّما كان من شأنه إعادة تشكيل وجه الحياة من حوله, فلا لزوجة هناك, تحرر جسده من زحام ما احتله ضيق, لا يُريد للوقت مرورًا, فقط يتابع حركة الأشخاص, ما بين رجال أعمال تكتظ حقائبهم بالمال, وآخرين انتظروا أدوارهم أمام شبّاك الموظّف المكلف بتقديم وإنهاء كافة الإجراءات المالية, تخدّل جسده قليلًا في جلسته وبيده ورقة الانتظار, لا يُريد لصاحبة الصّوت الالكتروني أن تذكره, متمتمًا:(ياريت الواحد يعيش ويموت هِنا) من وقت لأخر ينظر إلى شاشة هاتفه ساخرًا, إذ كانت نغمات أغنياته
لم تنقطع, ولطالما ارّقها اتصالات لبحث عمل ما في وقت متأخر من الليل أو إجراء تعديلات على نوبتجيّة, أو خطابات لجهات إدارية مختلفة.
مازال تأخر صرف المكفأة يسيطر عليه, ويجعل من اقتضاب وجه زوجته أمرًا حتميًّا, ربّما كان السّبب في ذلك احتياجها لشراء بعض متطلبات ابنتيه من جهاز للعرائس كما تفعل كل أسرة في سنوات ما قبل الزّواج, باكرًا تناول حبوب الضّغط وإبرة الأنسولين, يستحث جسده على مقاومة خشونة الركبتين, تلك المتاعب التي ألمّت
به مجتمعة ما بين ليلة وضُحاها, إلا أن زيارته للبنك تكررت كثيرًا, حتّى بعد صرف مكافأة إنهاء الخدمة, وانفراجة وجه زوجته, مُتعللًا في ذلك بأسباب واهية, لم تكن في حقيقتها إلا اقتناص ساعات من الجلوس في مِقعد مُريح, ومتابعة وجوه بطِلاء الرّاحة, والسّفر لأوقات سكنت داخل إطار خشبي, يركض كعدّاء إفريقي داخل حلبة سباق, لا تكاد أن تلتصق أقدامه بالأرض, خفيفًا كالفراشات.