في غمرة الفرح والسعادة التي انتابتني وأنا أشارك ابني الكبرى مشاعر البهجة والسرور بنجاحه في امتحان البكالوريا منذ أيام مضت ظهرا، كنت بجوار بعض المهنئين الذين قدموا ليشاركوني وبقية أفراد عائلتي مراسم هذه المناسبة العظيمة - التي لا تتكرر مرتين في عمر الإنسان -، وكنا نتقاسم ما لذ وطاب من الحلويات والمشروبات الغازية والعصائر وغيرها تحت صخب أصوات الموسيقى والزغاريد وسنوها من مظاهر الفرح في مجتمعنا الشرقي، مما جعلنا نصيح عند الكلام وننتبه جيدا ونحاول التركيز عند السماع....
فتذكرت فجأة مقولة لنجيب محفوظ حفظتها عن ظهر قلب منذ سنين "صارحني واغضب منك فترة ولا تستغفلني فأكرهك للأبد" ما إن ابتسم جاري "حسن" وقال لي بصوت عال جدا - نظرا لما سلف ذكره - :
- فرحت كثيرا لنجاح ابنك يا محمود، طرت عاليا فرحا ولم تسعني الأرض ولا السماء وانتظرت بفارغ الصبر رجوعك إلى منزلك لأشاركك هذه الفرحة (وهو يبتسم ويربت على كتفي بلين ورقة)
- (مبتسما ابتسامة مصطنعة ومجاملا في كلامي وتصرفاتي) بارك الله فيك يا جاري الوفي، (مصافحا إياه بحرارة) فقد بلغتني مشاعرك الفياضة و رأيك في ابني وتقييمك لمستواه الأكاديمي (فاحمر وجهه وتصبب عرقا وشاح ريقه. فقد قيل لي إنه أقسم بالواحد الأحد وراهن مع ثلة من أصدقائنا على رسوبه وفشله في اجتياز هذا الامتحان، وقد أعرب عن دهشته من وصوله إلى هذا المستوى وهو قمة في الغباء والكسل وغيرها من الكلمات والصفات المدمرة....)
- (متلعثما ومتذبذبا) لم أشكك يوما في مؤهلاته ولا في مقدرته على تجاوز أي امتحان، وقد أثنيت على فطنته وذكائه وسرعة استيعابه لكل المعلومات ...، وكل ما بلغك عكس هذا فهو محض افتراء وازدراء وفتنة قصد بتر علاقتنا والنيل منها......
فقاطعته في الإبان بصوت جد مرتفع بعد أن ابتسمت في وجهه ابتسامة عريضة مستمدة من القلب وأعربت له عن استغرابي من رده وخاصة قوله "...وكل ما بلغك....فهو محض افتراء وازدراء"، مبينا أني لم أشرح إن كان ما وصلني هو ايجابي أم سلبي، وإن استعجاله وتفنيده لشيء لم أقر بمعرفتي له من عدمه يؤكد حصوله فعلا، وهو إقرار ضمني منه بارتكابه بهذه الكيفية والطريقة....
ثم قدمت له كوبا من العصير وقطعة من الحلويات وطلبت منه نسيان هذا الموضوع بعد تذكيره بمقولة نجيب محفوظ سالفة الذكر، ودعوته للتمتع بسماع كلمات بعض الأغاني التي كنا نستمتع بها مع بقية الحضور.
ثم تطرقنا إلى مواضيع جانبية أخرى، وقد لاحظت استمرار اضطرابه وتململه ورغبته في الانسحاب بعد انكشاف أمره وافتضاح أقواله وأفعاله، وقد تغيرت ملامحه وشحب وجهه وتلعثم في الكلام تفقد كل توازن وثقة بالنفس.....
غير أنني أصررت على بقائه ومكوثه إلى جانبي إلى وقت العشاء لتأدية الصلاة جماعة وتناول الوجبة سويا بحضور زوجته وبناته اللات كن يتقاسمن الفرح من قلوبهن فعلا مع زوجتي وابني وإخوته، فبقي ممتعضا بعد أن فشل في اقناعي بضرورة المغادرة واختلاق الأعذار الواهية وحيله التي لم تنطل علي ....
وفي الحقيقة، فإنه لم يكن يعلم أني أودعه بهذه الاستضافة وهذا الترحاب الذي لم يعتده مني، فأنا أمقت المنافقين والنمامين والكاذبين وغيرهم من المتصفين بمثل هذه الصفات القبيحة التي لا أحبذها في أي كان، والتي تعجل في طي صفحة من يرتديها وتريحني من شر أقواله وأفعاله وحيله ومكره وزيف مشاعره وأحاسيسه وغيرها، بما أن "متصنع الود أبشع من صريح العداوة"، ومن لا يكون متوازنا ومتصالحا مع ذاته ويخاف الله واليوم الآخر لن يكون البتة متوازنا مع غيره ومتصالحا معه ما دام تابعا للشيطان و وسوساته اللامتناهية...