الأديب الحق هو ترجمانُ مجتمعه، والمعبر عنه. وكما يرى الكاتب السوري محمود حواس: "إن عَلاقةَ الأدب بالمجتمع عَلاقةٌ جدليةٌ تفرضها مقوماتُ النشأة والتطور داخل هذا الوسط، وقد فرضتِ الظروفُ والمتغيراتُ والتحولاتُ المجتمعيةُ ظهورَ نوعٍ جديدٍ من الالتزام المحدد بالأوضاع الاجتماعية والسياسية التي تتحول وتتغير باعتبارها صيرورةً وجوديةً إنْ سلبًا أو إيجابًا، والمقصودُ هنا بالالتزام انصهارُ الأديب في مجتمعه، وانشغالُه بقضاياه التي تعد بعضا من يومياته الطبيعية".
ويبقى الأديبُ لسانَ أمته تعبيرًا عنها وبيانًا لما يشغلها من أحداثٍ جِسام، لا سيما إن كان لهذه الأحداث أثرٌ في تكوين تاريخها، ولم تذُقْ أمةٌ على مر الزمن ما ذاقته أمتُنا من الحزن، وما زالتْ حتى اليوم تتجرَّعُ مرارته، وستبقى تلعَق جراحَها حتى يرِثَ اللهُ الأرضَ ومن عليها حزنًا وألمًا على الفردوس المفقود؛ جنةِ العرب الضائعة، التي قال المؤرخون عن أهلها حين فرطوا فيها بعدما مالوا للدعةِ وملذاتِ الدنيا العارضة؛ ففقدوا نخوةَ آبائهم:
" أن الأَنْدَلُسيين ألقوا بأنفسهم في أحضان النعيم.. ناموا في ظلٍّ ظليلٍّ من الغنى الواسع والحياةِ العابثة والمجون، وما يُرضِي الأهواء من ألوان الترف الفاجر، فذهبت أخلاقُهم، كما ماتت فيهم حَميَّةُ آبائهم البواسل، وغدا التهتكُ والخلاعةُ والإغراقُ في المجون، واهتمامُ النساء بمظاهر التبرج والزينة بالذهب واللآلئ– مِن أبرز المميزات أيام الاضمحلال التي استناموا فيها للشهواتِ والسهراتِ الماجنة، والجواري الشاديات. وإنَّ شعبًا يهوي إلى هذا الدرك من الانحلال والميوعة لا يستطيع أن يصمد رجالُه لحرب أو جهاد".
في قصته (كلب من زمن غابر) ينكأ الكاتبُ حمادة عبد الونيس جراحًا أبت – رغم الزمن – أن تندمل، يجسد تلك المرارات جميعَها في صورة رمزية بديعة، ويجد القارئ نفسه حائرًا وهو يفك تلك الشفرات التي أرسَلها تباعًا.
(كلب من زمن غابر) عنوان يحمل دلالاتٍ عدة – رغم طوله النسبي– فالكلبُ رمزُ الوفاء ثم يجئ وصفُه بشبه الجملة ( من زمنٍ غابر ) وما يوحيه حرفُ الجر ( من ) من معانى (التبعيض) وكأنه كلُّ ما تبقى لنا من ذلكَ الزمن (غابر) باقٍ ما غاب يومًا ولن يغيب.
(في حارة العطارين) رمز للعراقة والأصالة، ولعل صاحبَنا تعمدَ ذكر العطارين؛ كي يلتمسَ لديهم علاجًا تقليديًا لضعف الفحولة والرجولة، في صورةٍ ساخرةٍ وقدحٍ في أذواق وعقول أناسٍ تبلَّدوا ومالوا للخضوع.
(ضريحان) أي قبران رمز الحزن، ومصدرُ العظة لدي العقلاء؛ فالموتُ خيرُ واعظ؛ بيْدَ أننا أمةٌ لا تتعظُ ولا تتعلمُ من أخطائها. ويزيد الكاتب من آلامِنا حين يجعلهما قبرين لفارسَين من محاربي الأندلس ( البواسل).
لكن يبقى كلبُنا العجوزُ تُعجَبُ به تلك الكلبةُ الحمراءُ، ولا يعجبها غيره رغم شيخوخته وبطءِ حركته. تنجبُ منه سبعة جِرَاء، ولعل الجِرَاءَ بهذا العدد تحديدا يذكِّرنا بقرون القوة التي كنا نرفل فيها في نعيم الفردوس (الأندلس).
تبهرك تلك الرمزية، وهذا الخيال الخصب، ولا تملك إلا التسليم بالإعجاب بتلك البراعة.