نظرت سيلفيا إلى الوقت ، ابتسمت ، لم يتبق سوى نصف ساعة وتوني والثلثمائة وخمسة عشر راكبا يجب أن يغادروا الحياة ، أراد توني أن يفتتح زواجه بقبلة لكن سيلفيا دفعته برقة مصحوبة بضحكة مغردة أسكرته قائلة :
_ إلى الحمام أولاً.
_ بالتأكيد سأذهب إلى الحمام، لقد اعتدت أن آخذ حمامي كل ليلة قبل الذهاب للفراش ، حتى لو كان سيحتويني لوحدي ، فقط أردت قبلة لتنعشني .
_ انتهى الأول من حمامك ، والقبلة لن تطير .
_ أوه .. سيلفيا.. لا تُبدين قسوة مصطنعة لا تليق بالحنان الذي يتدفق من عينيك.
_ هذا الحنان الذي تراه يتدفق من عيني هو الذي يأمرني بأن أدعك تذهب للحمام ومايليه .
_ وهل هناك شيء آخر بعد الحمام سوى الفراش الدافئ.
ضحكة مغردة من سيلفيا أذابت قلبه قائلة:
_ لا تتعجل الأمور .. انسى نساء نزواتك.. أنا أريد أن أكون زوجة لا واحدة منهن.
قال ضاحكاً وهو يتجه نحو الحمام صاغراً:
_ آه .. نسيت بالفعل انني أصبحت أسير زوجة تملي شروطها منذ اللحظة الأولى .
خرج من الحمام مندفعاً نحوها ، أبعدته بنفس الأسلوب الرقيق الضاحك ، وهي تشير نحو البيجامة البيضاء قائلة :
_ لقد انتقيت لك هذه البيجامة البيضاء من بين ثيابك ، لتكون فألاً حسناً في أول ليلة للزواج.
أجاب مندهشاً تصاحب دهشته ضحكة خليعة:
_ أنت قلت أنها أول ليلة بعد الزواج.. فما الداعي لارتداء البيجاما.
نظرت إلى الوقت وقالت بجدية:
_ أسرع.. أسرع.. الوقت يمضي سريعاً.
_ أراك متلهفة للدخول إلى حضني.
_ نعم.. أسرع.. لكن يجب أن نصلى معا قبل أن أدخل إلى حضنك.
قال ودهشة أكبر من سابقاتها تعتلي وجهه:
_ هل أنا تزوجت من قسيسة؟!
_ وهل يجب أن أكون قسيسة لكي أدعوك للصلاة.
_ شيء لم أعتده طوال حياتي.
_ لأنك كنت تعيش حياة صاخبة بكل أنواع الموبقات.
_ نعم.. نعم.. لكن لي سؤال قبل أن نبدأ الصلاة:
_ تفضل.
_ هل بعد ذلك ستأمرينني بشرب كوب اللبن ثم الذهاب إلى الفراش متمنية لي أحلاماً سعيدة
_ كفاك مزاحاً.
حاول أن يطوق خصرها بعد الصلاة، لكنها أمسكت بيده ، وقبلته فوق جبهته ، ودفعته وابتسامة حزينة ارتسمت فوق شفتيها لم يفطن لها قائلة :
_ هيا إلى الفراش، فهناك عمل مجبرة على تأديته .
رقد فوق الفراش وهو يظن أن العمل شيء خاص بها ، لكن الوقت كان يشير إلى تمام الساعة ، أخرجت العصا الخضراء ووجهتها نحوه ، فوجئت بارتطام هائل ، مالت السفينة على جانبها الأيمن في لحظة واحدة ، انزلق توني سبرنجر إلي الأرض بشدة ، سمعت صوت ارتطام رأسه ، نظرت نحوه سريعاً ، لم تطرف عيناه ، فارق توني سبرنجر الحياة . الذي لم تتوقعه المأزق الذي وجدت نفسها غارقة فيه، ففي نفس اللحظة التي يجب أن يغادر فيها توني الحياة يجب أن يغادر معه ثلاثمئة وخمسة عشر راكباً، ولكي يتم هذا دفعة واحدة ، كان يجب أن يحدث شيء ما ينهي على حياتهم جميعاً في نفس الوقت ، والذي حدث هو ارتطام السفينة بشعاب مرجانية كثيفة ، اندفعت المياه سريعاً إلى داخلها لتغرقهم جميعاً وهم نيام ، أما من تبقى الذين لم تحن ساعتهم تشبثوا بالنجاة . فتحت سيلفيا الباب سريعاً واندفعت نحو الممر وشلالات المياه تهدر من حولها ، استطاعت أن تصل لسطح السفينة التي جنحت فوق الشعب ومالت على جانبها الأيمن ، تساوى سياجها مع سطح الماء وابتدأت تزحف للخلف استعداداً لأن يبتلعها اليم ، فكرت سيلفيا سريعاً ، تسأل عقلها عن كيفية الهرب من هذا المأزق ، جاءتها الإجابة من حيث لا تدري ، أخرجت سريعاً القائمة وأشارت بالعصا الخضراء نحو التالي في القائمة ، في ثوان كانت قدماها تقفان على الشط ، تاركة السفينة لمصيرها وباقي الركاب يتعلقون بأثاث السفينة الذي طفا فوق الماء في انتظار النجدة . وقبل أن تفيق لنفسها سمعت صوتا يسألها :
_ ما الذي أتى بك إلى هنا في مثل هذه الساعة؟!
نظرت في اتجاه الصوت، كانت الليلة مقمرة ، رأته ، شيخ طاعن السن ، يلقي بسنارته في الماء . اتجهت نحوه قائلة:
_ خبرني أنت.. ما الذي أتى بك في هذه الساعة إلى هنا.
ضحك ضحكة مكركرة كشفت عن أسنان متفرقة وأجاب:
_ كل ليلة أحضر إلى هنا لأصطاد الحظ، قد تخرج لي في السنارة عروس جميلة مثلك تعيد لي شبابي.
_ ألا تخشى أن يصيبك مكروه وأنت في هذا العمر؟!
_ لم يولد من يستطيع الهرب من قدره.
_ لكن علينا ألا نورد أنفسنا مورد التهلكة.
_ التهلكة أنا وردتها منذ أن فقدت ابني الوحيد في البحر، منذ ذلك اليوم كل ليلة آتي إلى هنا ، أُلقي بالسنارة وأنا أدعو الله أما أن تخرج عالقاً بها ابني ، أو يرسل من البحر وحشاً يلتهمني لألحق به وأستريح من العذاب الذي غرقت فيه منذ أن فقدته . الشيخ الطاعن السن هو التالي في القائمة بعد ضحايا السفينة، لم يبق على موعد رحيله سوى نصف الساعة وخمس دقائق ، أرادت أن تقطعهم سيلفيا في شيء مفيد فسألته :
_ ما هي الحكمة التي تعلمتها من الحياة يا سيدي.
هز الشيخ رأسه عدة مرات وابتسم ابتسامة تجمع بين الندم واليأس وأجاب:
_ إذا كنت تريدين الاستمتاع بالحياة، يجب أن تستيقظي كل صباح لتعيشي يومك فقط ، انسي الأمس بأوجاعه وأفراحه ، ولا تفكري في الغد الذي تجهلينه ، اسعدي باللحظة التي أنت فيها فقد لا تتكرر ثانية ، لا تفعلي مثلي عندما رفضت أن أقبل حكم القدر عندما فقدت ابني ، منذ ذلك اليوم وأنا أعيش نهاري نائماً وليلي أقضيه على شط الماء أُلقي بسنارتي دون هدف كما تشاهدين .
أتت اللحظة التي ينتظرها الشيخ ووجهت سيلفيا نحوه العصا الخضراء ، ولثاني مرة في نفس الليلة لم تدر ما الذي يحدث ، موجة كارتفاع الجبل أقبلت نحو الشاطئ بالرغم من سكون الريح وهدوء الماء ، ضربتها بقوة أطاحت بها عدة أقدام للخلف ، عندما تمكنت من فتح عينيها بعد أن كستها المياه وتسرب البعض منها إلى أنفها وأحست بأنها تختنق ، كانت تنتظرها مفاجأة جديدة ، فغرت فاها وقد تحول الشيخ الطاعن إلى فتى غاية في الصبا والجمال ، نظرت نحوه والكلمات تأكل بعضها سائلة :
_ أين الشيخ الذي كان يجلس هنا.
أجابها الفتى والابتسامة تعلو شفتيه:
_ عن أي شيخ تتحدثين؟!
لم تعر إجابته اهتمام وسألت ثانية:
_ هل يمكن أن يكون الشيخ تحول إليك أنت؟!
_ أجاب ولا تزال الابتسامة فوق شفتيه:
_ لا أفهم عن ماذا تتحدثين!!
وللمرة الثانية تتجاهل إجابته ولاحقته بسؤال آخر:
_ هل يمكن أن تكون أنت ابن الشيخ الذي حدثني عنه وقال أنه غرق؟ ، هل يمكن أن تكن امنيته قد تحققت ، علقت أنت بالسنارة وذهب هو بدلاً منك !!
أجاب الفتى والابتسامة تكاد يعلو صوتها:
_ ماذا بك يا سيلفيا؟ هل أصابك الجنون ؟!
انتفضت عائدة للخلف وبعض من الذعر يكسو ملامحها:
_ وهل تعرف اسمي؟!
_ بالتأكيد أعرف اسمك.. وهل يمكن أن أنسى اسم من تسببت لي في السجن طوال هذه الفترة داخل جوف سمكة القرش؟!!
إستدارت على عقبيها وقد تملكت الانتفاضة جسدها بالكامل، حاولت أن تُجبر قدميها على الانطلاق وهي تصرخ .. عزرائيل.. عزرائيل.
فوجئت به يربت فوق ظهرها والابتسامة علا صوتها بالفعل وتحولت لضحكة قائلاً:
_ لماذا تخشينني؟ ،ألست أنت أيضاً عزرائيل هل المفروض أن يخشى الزملاء بعضهم؟!
استدارت في مواجهته وقد بدأت دموعها تهطل لتبتلعها رمال الشاطئ وقالت بصوت كسير:
_ هل تود الانتقام مني؟
أجاب بابتسامة ودودة ويده تربت وجنتها مطمئنناً:
_ ولماذا أنتقم منك؟! لقد كان خطأي أنا منذ البداية ، ثم نحن لا نعرف الانتقام ، نحن ننفذ الأوامر فقط .
_ هل أفهم أنك ستنفذ الأمر في الآن؟
_ بالتأكيد لا.. أنت لا يزال أمامك وقت كثير، لحظتك لم تحن بعد .
جلست فوق الرمال المبتلة تحاول أن تطلق أنفاسها التي سجنتها منذ أن رأته، قالت وهي تحاول أن تعيد الابتسامة إلى شفتيها :
_ لم أكن أتخيل أن يكون عزرائيل في صباك وجمالك.
أجاب وفوق شفتيه ابتسامة زادت من ملاحة وجهه:
_ وهل لأني عزرائيل الذي يقتطف الأرواح، يجب أن أكون دميماً ومخيفاً ، كما يتخيلني البشر ، أنا مَلَك وأؤدي عملي المكلف به ، كثيراً ممن تحين لحظتهم ويرونني يتركون الحياة وفوق شفاههم ابتسامة مطمئنة .
_ أنا واحدة من هؤلاء البشر الذين تقول عنهم أنهم يتخيلون عزرائيل دميماً مخيفاً ، لكن الآن حتى لو كنت ستنهي حياتي ، كنت سأتركها وفوق شفتي ابتسامة مطمئنة
قال وضحكة لها رنة خفيفة:
_ أشكرك.. قولك هذا عوضني عن سنوات سجني، سأوضح لك ما حدث وسيحدث بالضبط.. عندما وجهت العصا نحو الشيخ الطاعن، اندفعت سمكة القرش نحو الشاطئ لتلفظني لأن سنوات العقاب انتهت وتبتلعه هو كأمنيته ليستريح من عذابه كما كان يلح في طلبه
قالت مندهشة:
_ سأسألك سؤالاً سألته للغريب من قبل ، هل كل أمنية يتمناها البشر تتحقق ؟!
_ ليس شرط أن تتحقق كل الأمنيات ، لكن أحيانا يلح البعض لتتحقق أمنيتهم ، بالرغم من أن هذه الأمنية قد يكون فيها كل الضرر لهم وهم يظنون أن فيها الخير لهم ونتيجة لهذا الإلحاح يستجاب لهم ليكونوا عبرة للغير الذين يظنون عدم تحقق أمنيتهم برغم إلحاحهم هو الظلم بعينه وقد يندفعون للخطيئة .
_ الفضول يدفعني لسؤالك عما سيحدث الآن ؟
_ سأعود أنا لوظيفتي، وأنت لديك مهمة كبيرة ، الذهاب إلى أفريقيا لمساعدة الناس هناك ضد الفيروس اللعين ، الذي اكتشف المصل الواقي منه العالم جيرارد قبل أن تنتهي حياته ، وكل ما يخص هذا المصل معك الآن .
_ كيف عرفت كل هذا وأنت سجين جوف سمكة القرش؟!
عادت ضحكته للرنين وأجاب:
_ هل نسيت إنني مَلَك، وإنني يجب ان أعود لوظيفتي بعد انقضاء فترة العقوبة ، وبالتأكيد يجب أن أعرف كل ما يحدث خلال هذه الفترة ، الشخص الذي أطلقت عليه اسم الغريب كان ينقل لي كل الأخبار ، الذي لا تعرفينه أن الغريب هو مساعدي ، وأيضاً كان المساعد لك خلال قيامك بدوري .
ضحكت سيلفيا قائلة:
_ إذاً فأنت تعرف ما حدث فوق السفينة.
ازدادت ضحكته وأجاب:
_ بالتأكيد أنت ذكية جداً كما وصفك الغريب، سيرت الأمور مع رجل الأعمال توني سبرنجر كأحسن ما يكون ، تطلعك لصنع الخير سيحسب لك ، فانت تزوجت به من أجل ثروته التي قررت أن تستخدمينها في أفريقيا للمساعدة في العلاج من الفايروس والوقاية منه وتصرفت بحكمة عندما دعوته للصلاة قبل نهاية حياته مباشرة ، لتكون شفيعاً له.
قالت وهي تمد يدها بالعصا الخضراء والقائمة نحوه:
_ أعتقد أن مهمتي انتهت.
_ المهمة التي في انتظارك بأفريقيا مهمة صعبة وأنت جديرة بها، وسُجلت لك كخير لا يمكن لأحد أن يقوم به سواك ، أما العصا ستحتفظين بها معك ، لأنك ستحتاجين إليها مستقبلاً
سألت مندهشة:
_ كيف؟!
_ هذه العصا ستنهين بها حياة شخص واحد فقط.
سألت متلهفة:
_ من هو؟
_ أنت.
ضحكة مجوفة أطلقتها دون وعي وقالت مذعورة:
_ أنا!!!
_ نعم، وهذه هي مكافأتك عن الفترة التي قمت فيها بدوري خير قيام وعن الأعمال الخيرة التي قمت بها وستقومين بها منذ الآن ، سيترك لك تحديد موعد نهايتك بنفسك ، في الوقت الذي ترينه أنك قد قمت خير قيام بما يؤهلك لآخرة صالحة وأنك أصبحت تشتاقين للنهاية ، قد يدهشك هذا القول الآن ، لكن سيأتي بالفعل اليوم الذي ستجدي نفسك قد أديت واجبك نحو آخرتك ، وأنت نفسك تودين الرحيل من هذا العالم المتعب ، وقتها ستوجهين العصا نحو نفسك ، وستجدينني أمامك بابتسامة تطمئنك .