تكاد لاتوجد دولة أخرى ،في وزن الولايات المتحدة الامريكية وأهميتها أنها تكرس جل دبلوماسيتها لخدمة مصالحها الأقتصادية وتحسين المركز التنافسي لصادراتها وزيادة حصة صناعاتها المختلفة في الأسواق العالمية خصوصا منذ بداية عقد التسعينات الذي شهد نهاية الحرب الباردة وإنقسام العالم بين معسكرين حربيين وفلفستين إقتصاديتين ذلك علي العكس مما كان عليه الأداء الدبلوماسي الأمريكي منذ نهاية الحرب الكونية الثانية .
ومع أن المصالح الإقتصادية لم تغب في أي يوم مضي عن قائمة الأهداف المرغوب في تحقيقها ولم تتوار عن الأجندة الخاصة بدبلوماسي الدول الصناعية الكبرى وممثلها الرسميين إلا ان الإستعلاء السياسي والكبرياء القومي كانا دائما يتقدمان واجهات أنشطة السفارات والمبعوثين ويشكلان غلالة شفيفة ،إلا أنها كانت قادرة في الوقت نفسه علي حجب الغايات الإقتصادية المستهدفة والتمويه علي المصالح التجارية بالأحاديث المسهبة عن السيادة والموضوعات التي تستقطب سخونتها الأضواء والأهتمامات وعناوين الصحف ومقدمات الأخبار .
ذلك أن أنهيار الأتحاد السوفيتي وإفلاس نظرية التخطيط الإقتصادي المركزي الشامل ،قد فتحا الباب واسعا أمام تقدم الأقتصاد علي السياسة وسرعا في أنقضاء زمن الأيدلوجيات العقائدية لصالح زمن المصالح التجارية والتكنولوجيا وشبكة المعلومات والأتصالات والعولمة ،الأمر الذي لم يعد من الممكن معه مواصلة ذلك الترفع الذي لا معني له من جانب السياسين وتعففهم عن الخوض علنا في مياه المال والاعمال والتجارة .
ولعل المتغير الأكثر أهمية وراء كل هذه الشفافية الراهنه في العلاقات السياسية بين الدول والعنصر الأشد تأثيرا في حدوث مثل هذا الإنقلاب في سلم أولويات رجال السياسة والدبلوماسيين ، هو ذلك الإنقلاب في مفهوم القوة ذاته خصوصا عندما إتضح ان الألة الحربية السوفيتية الهائلة قد إنهزمت في معركة لم تنطلق فيها رصاصة واحدة ،وإن كل تلك القوة التدميرية الرهيبة لم تكن قادرة علي تأمين مستوي معيشة لائقه بعشرات ملايين الروس الذين كانوا يعتقدون بأنهم يعيشون في رحاب دولة عظمي تعادي الولايات المتحدة .
وهكذا فان مانشهده الآن من صراحة غير معهودة من قبل ،يفارقها الدبلوماسيون ورؤساء الدول والحكومات خلال الإجتماعات الثنائية المتعددة الأطراف لدى الحديث عن المصالح الإقتصادية وأسعار صرف العملات والأسواق ،إنما تعبر في حقيقة الأمر عن تطور آخر في مضمون التعبير الدبلوماسي ذاته ،وذلك بعد ردح طويل من تقلبات هذا المفهوم بين الحرب والسلام .
سيما ونحن نشهد إدارة نوعية للسفارات والمبعوثين والقناصل الذين أخذوا يقدمون المصالح الإقتصادية لبلادهم علي تلك الإعتبارات السياسية المعهودة ،ويتوسلون تحقيق هذه المصالح عبر كل السبل المتاحة بما في ذلك القوة العسكرية أن لزم الأمر ،ودبلوماسية الأساطيل الحربية ،والحروب بالوكالة والصراعات الإقليمية المحدودة وذلك علي العكس مما كان يحدث في العهود السابقة من تهميش للمصالح الإقتصادية بل وحتي التضحية بها في إطار السباق الذي إحتدم بين الشرق والغرب حيث كانت الإعتبارات العقائدية والإستراتيجيات الأمنية والسياسية هي التي تتصدر إهتمامات المتنافسين الكبيرين آنذاك
ولعل نظرة علي الاهمية المتعاظمة لمنظمة التجارة العالمية التي ستكون بمثابة مرجعية دولة مهيمنة وناظمه لعلاقات التبادل التجارى بين الدول ،تبين ألي أبعد الحدود الممكنة أن إنشاء هذه المنظمة في مرحلة مابعد إنتهاء الحرب الباردة إنما يعبر عن روح عصر جديد تتهاوي فيه الحواجز الجمركية وتتلاشي فيه المسافات ويختصر فيه الزمن وتتعاظم فيه القدرة علي الأتصال وما إلي ذلك من متغيرات من شأنها ان تقلب المفاهيم السائدة والقيم المتوارثة والثوابت التاريخية والرؤي والفلسفات والعلاقات بين الدول والأمم والجماعات .
وتعزز مثل هذه النتيجة أكثر فأكثر إذا ما إستعدنا إلي الذاكرة الأهمية المتعاظمة لنادي ..دافوس.الذي يلتقي فيه سنويا نحو آلاف المشتركين بين رجل اعمال ومفكر ودبلوماسي ،علي هيئة حكومة عالمية لإدارة إقتصاد العالم والتخطيط لمكوناته وتوجيه آلياته في مشهد يبدو فيه مثل هذا الملتقي السنوي كتعبير آخر عن روح عصر جديد الان .
تهيمن فيه إعتبارات المال ،والتجارة والاعمال علي كل تلك الإعتبارات التي صاغت العلاقات بين الدول ،وافرز منظومة من القيم والثقافات المتساوية مع بناها التحتية.
وعليه فأنه يمكن رصد التطور الجديد في مفهوم ومضمون العلاقات الدولية وإلتقاط اهم مكونات العصر الراهن بإعتباره العصر المجسد لمفهوم دبلوماسية المصالح التجارية ،حيث بدأت المصالح الإقتصادية المالية والتجارية تتقدم علي شتي الاعتبارات الاخري فوق مسرح السياسة الخارجية القائم حاليا خصوصا بعد ان تم حسم الصراع الايديولوجي بين المعسكرين اللذان سادا الحياة الدوليه لعدة عقود.خلت وهيمنا علي المسرح الدولي .
وتبدأ مفهوم القوة لدي الدول ،حيث حل ذلك المغزي الإقتصادي وحيوية التنافس التجارى محل المفهوم الكلاسيكي .الذي كان يقيس قوة دولة ما بعدد الطائرات والمدافع وتعداد الجيوش والمعدات الحربيه ..
لذلك لم يعد من المستهجن ان تجاهر دولة عظمي بتقديم مصالحها وأن تضع مثل هذه المصالح في اول سلم إهتمامات سياستها الخارجية .
وان تسقط من حساباتها المباديء والقيم الأخلاقية والشعارات الديمقراطية وحقوق الانسان ،إذا ما بدا لها أن ذلك يضر بمصالحها المباشرة ويضعف من مركزها التنافسي في عالم تغيرت مفاهيمه بالكامل.
وغدت الشئؤون الإقتصادية فيه محور انشطة الدولة وغاية كل جهودها المتنوعه ،بما في ذلك جهدها الدبلوماسي وأنشطة ممثليها وملحقيها في السفارات المختلفه .
ولعل الولايات المتحدة وهي دولة ذات مصالح إستراتيجية وإقتصادية تشمل مختلف انحاء العالم تبدو في مقدمة دول العالم إنتهاجا للدبلوماسية المصالح التجاربة كما أخذت سياستها الخارجية تقدم منذ مطلع العقد الراهن نموذجا عمليا ملموسا ليس فقط لمضمون دبلوماسية المصالح التجارية.
وإنما كذلك لمغزي ومدي عمق التغيرات التي حدثت في مفهوم الدبلوماسية ذاته خلال هذه الحقبه التي بدات مع نهاية الحرب الباردة .
فمنذ ادارة الرئيس .بيل كلينتون ..كانت لا تتواني عن القول علنا ان محور سياستها الخارجية هو مصالحها الإقتصادية وان الازدهار الإقتصادي الأمريكي يقع في المقدمة الأولي من إهتمامات هذه الإدارة وأن كل ماتقوم به من جهود دبلوماسية أو ما تقدمه من مساعدات مالية وفنية ،وحتي ماتشرع به من حروب مستمره الي الان او ما تلوح به من قوة حربيه جميعها مسخرة لتعزيز مكانة امريكا وتوسيع مصالحها الإقتصادية ان لم نقل تعديل ميزانها التجارى مع هذه الدولة او تلك حتي وإن تعارض ذلك مع شعاراتها الخاصه بحقوق الإنسان..
وإلي الآن تتحكم المصالح التجاريه في كل العلاقات الدبلوماسيه الاقتصادية ويندرج تحتها كل المسميات القوة والمهادنه والتخطيط بكل أشكاله .